أهم العوائق الداخلية
1-
عدم امتلاك علم الاجتماع العربي لنظريات علمية اجتماعية عامة واضحة المعالم، يكون لها أنساق معرفية متكاملة، يمكن اختبارها واقعيًا، وتكون لها قدرات تفسيرية، وقدرات تنبؤية، كما هو الحال في علم الاجتماع في الغرب، أما معظم الدراسات الاجتماعية العربية فإنها تدور في فلك الدراسات الوصفية. فالنظرية تلعب دورًا أساسيًا في تحديد موضوع العلم، والفضاء المعرفي الذي يجب أن يتحرك به مجال البحث، وبالتالي تسهم في تراكم الخبرات العلمية والمعرفية، وتطويرها في اتجاهات محددة.
2-
الفشل في تأسيس منهاج علمي خاص، يمكن تطبيقه في الدراسات الاجتماعية العربية، ويراعي طبيعة الإشكاليات الاجتماعية العربية وخصوصيتها. ولا شك أن المنهاج، والنظرية، بالإضافة إلى الموضوع، والمفاهيم، من أهم شروط تأسيس العلم.
3-
عدم التنسيق بين الدراسات الاجتماعية العربية، وعدم توحيد المفاهيم والمصطلحات، والاستناد إلى مدارس ومرجعيات اجتماعية وافدة من نتاج الشعوب الأخرى، الأمر الذي خلق حالة من الفوضى والتضارب بين المشتغلين في الدراسات الاجتماعية العربية، نتج عنها ضياع الجهود، وخلق حالة هدامة، بدلاً من حالة بناءة، فقد يجتمع - على سبيل المثال- في أحد أقسام علم الاجتماع في إحدى الجامعات العربية مجموعة من الأساتذة، ينتمي كل واحد منهم لاتجاه اجتماعي مغاير أو منافس ومضارب للآخر (مثلاً: وظيفي، بنيوي، سلوكي، ماركسي، نقدي، إنشائي، توفيقي، تنظيمي، فوضوي ... إلخ)، فيسخر كل منهم طاقاته وجهوده البحثية للانتصار لمذهبه ومدرسته، التي هي بالأساس لا تنتمي للمجتمع العربي، فتكون النتيجة أن يساهم في تطوير علم الاجتماع الفرنسي أو الألماني أو الإنجليزي ... إلخ، وليس علم الاجتماع العربي!
4-
إشكالية الإطار المرجعي الفكري الفلسفي للنظرية العلمية: فمعظم المحاولات التي قام بها بعض الباحثين العرب لتأسيس نظريات خاصة بعلم الاجتماع العربي، نراها قد اعتمدت على إطار مرجعي فكري ينتمي للفكر الفلسفي الغربي، أو الفكر الفلسفي اليساري في الفترة السوفياتية، أو وضعت في إطار تصور الباحث لما ينبغي أن يكون عليه الإطار الفكري الفلسفي العربي، وليس في ضوء ما هو عليه واقع هذا الفكر الحالي، وذلك دون مراعاة خصوصية أن تؤسس النظرية الاجتماعية في إطار مرجعية فلسفية تنتمي للمجتمع الذي يجب أن تعمل به هذه النظرية.
5-
التركيز على الجوانب النظرية والتنظيرية في البحث الاجتماعي، وعدم القدرة أو الجدية في المضي قدمًا لاختبار واقعية البحث، وصدق افتراضاته من الناحية العملية، والكتابة والتأليف والترجمة بغاية التدريس الأكاديمي الصرف، ولغايات أيديولوجية، وتثقيفية، بدلاً من الاهتمام بتحقيق الأهداف العامة للبحث السيسولوجي، التي من شأنها محاولة فهم نشوء الظاهرة الاجتماعية، وتبديها في المجتمع، وتفسير عمليات تغيرها وتغييرها وتطورها وتطويرها، فجاءت معظم الدراسات الاجتماعية العربية في هذا السياق، أشبه بالخيال السيسولوجي أو التصور النظري المجرد، الذي يعوزه التثبت الاختباري لصحة افتراضاته.
6-
إشكالية التعميمية، والتجزيئية، كصفة ملازمة لمعظم الأبحاث السوسيولوجية العربية، فإما أبحاث عامة سطحية تلامس الموضوعات المعالجة من الخارج دون الغوص إلى أعماق المشكلة لتحليلها وفهمها جيداً، وهذا غالبًا ما يتمثل بالنزعة المدرسية في التأليف، حتى نجد أن أستاذ علم الاجتماع العربي يمكن أن يكتب في أي شيء وفي كل شيء، دون مراعاة ضرورة التعمق في تخصص محدد. أو بالمقابل أبحاث تركز على مشكلات جزئية، ذات طابع أمبريقي، دون مراعاة ضرورة فهم الإطار النظري العام الذي يجب أن تعالج به هذه المشكلات، فنجد هنا نزعة ذات صبغة تبسيطية تميل للتطرف في التجزيئية والتخصصية.
لا شك أننا لا نستطيع بهذه الصفحات القليلة أن نستوفي دراسة جميع الصعوبات الداخلية والخارجية، التي حالت دون تأسيس علم اجتماع عربي، وأسباب عدم امتلاكه لنظريات ومفاهيم ومصطلحات خاصة به، والتي يمكنه استعمالها وتطبيقها في معالجة القضايا والإشكاليات التي تهم مجتمعه ومواطنيه. لكن نأمل على الأقل أن نكون قد قدمنا خطوة صغيرة في الاتجاه الصحيح من أجل تسليط الضوء على بعض هذه العقبات، التي بدون تجاوزها، وبدون تهيئة الأرضية المناسبة لعمل سوسيولوجي عربي جاد، لا يمكن الحديث عن علم اجتماع عربي، وعلماء اجتماع عرب، بالمعنى الحقيقي للكلمة.
انظر عبد المعطي، عبد الباسط: اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، سلسلة عالم المعرفة الكوتية، عدد 44، 1981، ص.186.
القزاز، إياد: "انطباعات عامة حول علم الاجتماع في العراق مابين 1950-1970 " مجلة الخليج والجزيرة العربية، أكتوبر 1978، ص.55-64. نقلاً عن المرجع السابق ص 188.
عطية، بن فاروق وبوتفنوشان، مصطفى: "علم الاجتماع في الجزائر"، بحث مقدم لمؤتمر علماء الاجتماع العرب في الكويت، أكتوبر 1977. نقلا عن المرجع السابق ص.188.
انظر عبد المعطي، 1981، ص.188-189
انظر(أقتباس مع بعض التصرف لذلك لم نضعه بين مزدوجتين) كورغانوف، فلاديمير بالتعاون مع كورغانوف، جان كلود: البحث العلمي، ترجمة يوسف وميشال أبي فاضل، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط1، 1983، ص. 111 - 110
انظر. الخولي، يمنى: فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول- الحصاد- الآفاق المستقبلية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 264، الكويت، 200، ص. 386- 381
انظر. النابلسي، شاكر: بؤس الفلسفة العربية الحديثة، مقال منشور في مجلة إيلاف الإلكترونية، 2004، ص. 4.
انظر تقرير ورد في صحيفة المدينة الإخبارية، منقول عن تقرير علمي لعام 2004 صادر عن جامعة هارفارد الأمريكية حول مخصصات ميزانية البحث العلمي في هذه الجامعة، تاريخ نشر المقال في صحيفة المدينة الإخبارية السعودية 2009.11.02
انظر سالم الشامسي، ميثاء: مقالة بعنوان "حصاد مراكز البحث العلمي في الدول العربية، ماذا أنفقت؟ وماذا قدمت؟ وهل هناك إنجاز علمي يمكن التحدث عنه؟"، ندوة مجلة العربي: ندوة منعقدة حول الثقافة العلمية في الوطن العربي، واستشراف المستقبل، الكويت، 2005، ديسمبر، اليوم الثالث.
انظر تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية في العالم العربي لسنتي 2002 و2003 : ( نقلاً عن مقدمة العفيف الأخضر ص. 1-2 في الكتاب الذي نشرته مجلة إيلاف الإلكترونية في تاريخ 16 أبريل 2004).
من أجل مزيد من المعلومات راجع كتاب: كريب، إيان: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم، سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد 244، 1999، الطبعة الإنكليزية 1992. وكذلك لمزيد من المعلومات حول أهمية دور النظرية الاجتماعية من الناحية التفسيرية والتنبؤية يمكن مراجعة كتاب: "الاتجاهات الرئيسية للبحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية"، القسم الأول، العلوم الاجتماعية، المجلد الأول، تأليف مجموعة كبيرة من الأساتذة المتخصصين في العلوم الإنسانية، أشهرهم: جان بياجه، ترجمة مجموعة من المترجمين السوريين، دمشق، 1976.
للاطلاع على مزيد من المعلومات حول تاريخ إشكالية المنهاج في العلوم الاجتماعية وأهميته يمكن مراجعة كتاب، مصطفى أنور، علا: التفسير في العلوم الاجتماعية، دراسة في فلسفة العلم، القاهرة، 1988. وكذلك كتاب، سالم، علي: منهجيات في علم الاجتماع المعاصر، قرءات ونصوص، بيروت، 1992. وكذلك كتاب قنصوه، صلاح: "الموضوعية في العلوم الإنسانية، عرض نقدي لمناهج البحث"، القاهرة، 1980.
يمكن أن نأخذ نموذجاً – مجرد مثال لهذه المحاولات- لإشكالية الإطار الفكري الفلسفي المرجعي للدراسات الاجتماعاعية العربية، وهو ما يتمثل في الدراسات التي قدمها كل من الدكتور طيب تيزيني بالاستناد إلى المرجعية الفلسفية الماركسية، والدكتور محمد عابد الجابري، بالاستناد إلى المرجعية الفلسفية الليبرالية – البنيوية، إذا صح التعبير.
انظر عبد المعطي، 1981، ص.163-200
انظر المرجع السابق.