الفصل الأول: الارهاصات الأولى للفكر اليوناني
Résumé de section
-
المقدمة
لم يولد الفكر الفلسفي كاملا بل كان ثمرة جهود متواصلة من تفكير الإنسان الشرقي القديم ، فالفكر الإنساني كائن حي ينمو ويتطور باستمرار، بحيث يمكن القول أن الحضارات الشرقية القديمة البابلية والفرعونية والهندية والصينية تمثل مرحلة الطفولة في الفكر البشري بينما الحضارة اليونانية تمثل مرحلة الشباب، وهكذا تكون العبقرية اليونانية ليست وليدة العدم بل كانت نتيجة الاحتكاك الثقافي والحضاري بهذه الثقافات، و لما كان الإنسان حيوان ميتافيزيقي أو ماورائي كما قال "شوبنهاور" كان عليه أن يطرح تساؤلات عن أصل الأشياء الموجودة حوله و عن أسباب الظواهر المحيطة به وعن الغاية من وجوده، و عن مصيره بعد الموت، فأجاب عنها بصورة ساذجة عبر عنها في أساطير فنشأ الفكر الميثولوجي سواء في الحضارات الشرقية القديمة أو في الفكر اليوناني، لكنه أي الفكر اليوناني ارتقى إلى التفكير العقلاني، وهذا ما سنحاول توضيحه كالتاليإذا سلمنا بأن منبع الفلسفة هو اليونان رغم تأثير الفكر الشرقي القديم في نشأتها، فانه سبقت نشوئها في أرض اليونان ذاتها إرهاصات و بوادر، فما هي هذه البوادر والإرهاصات؟ و كيف انتقل العقل اليوناني من التفكير الميثولوجي الأسطوري إلى التفكير العقلاني؟
الميثولوجيا اليونانية
يجمع الدارسون في الشأن الفلسفي على أن الفكر اليوناني مر بمرحلتين أساسيتين: مرحلة التفكير الأسطوري أو الميثوس و مرحلة التفكير العقلاني أو اللوغوس، و الأسطورة myth ، من الكلمة اليونانية Mythos تدل على القول الذي لا صلة له بالواقع، ويعتقد بعض الباحثين في اللغة أن أصلها فارسي، غير أن البعض يردها إلى اللغة العربية و يجعل اشتقاقها من الفعل "سطر" بمعنى ألف و دون الخبر العجيب، وهذا يعني أن الأسطورة تحمل سمة العجائبية، أما اصطلاحا فهي حكاية مقدسة تروي أحداثا خارقة للعادة تتعلق بالإلهة و الأبطال، إنها قصة خيالية تتجاوز مقتضيات العقل البشري، تمثل محاولة لإشباع فضول التساؤل الناتج عن عجز الإنسان عن الفهم الحقيقي و العلمي لأسباب الظواهر، و تتلخص المرحلة الميثولوجية في جملة المعتقدات الدينية و الأساطير التي كان يؤمن بها القدماء، والتي مثلت حياتهم وبطولاتهم سجلت في مجموعة الأشعار و القصص المليئة بالخيال، و هو ما يميز الميثولوجيا اليونانية هو إلباس تلك الأساطير حلة أدبية و
شعرية راقية، وشملت هذه الأساطير تفسيرات اليونان الأوائل لظواهر الكون و أسرار الآلهة منها أسطورة"عقب أخيلوس" و من القصائد الشعرية نجد ملحمتي"الإلياذة" و "الأوديسا" لهوميروس* Homer الذي عاش ما بين القرن 11 و القرن 10ق مو قد تحدث عن حرب طروادة حيث رد سببها إلى مشاحنات بين ثلاث ألهة: وهي إلهة السلطة(هيرا) و إلهة الحكمة( أثينا) و إلهة الحب والجمال(أفروديت) حول أيهن أجمل، وانتهت باختطاف "باريس" الملك الطروادي للملكة "هيلين" زوجة "مينيلاوس" ملك اسبرطة،و قد كان هذا سببا كافيا لاندلاع الحرب بين طروادة واليونان ، كما أن ملوك المدن الإغريقية أمثال أغاممنون و مينيلاوس و أبطالها الخالدون لم تصل أخبارهم الإغريق إلا بعد إلباسهم حلة ميثولوجية، وهذا يعني أن قيادة الفكر عند اليونان في القرن 10ق م كانت في أيدي الشعر و الشعراء، فالسيادة كانت للخيال الرائع،فقد كان هوميروس يتصور الطبيعة و الإنسان تصورا ساذجا يعبر عن تصور البدائي لها، فهو يتصور الطبيعة حية تحمل أرواحا ويؤنسن الألهة ويستهتر بالأخلاق، فهو يقول: نهر زونتوس استشاط غضبا لأن أخيل ملأه بالجثث، وفي تأليهه للأرض، يقول: إنها ولدت الجبال و السماء المزينة بالكواكب ثم تزوجت من السماء المحيطة، فولدت أقيانوس و الأنهار، المصدر الأول للأشياء، و الآلهة كلهم في صورة بشرية، إلا أن سائلا عجيبا يجري في عروقهم يجعلهم خالدون، وهم أقوى من الأبطال و أسرع حركة يظهرون للناس أو يختفون كما يشاءون يسكنون قصورا فخمة في السماء يقضون فيها حياة ناعمة، يأكلون ويشربون و يتزاوجون، ولهم شهواتهم ورغباتهم، ويتفرقون في أحزاب و يدخلون في منازعات البشر بعضهم يؤيد اليونان والبعض الأخر طروادة ، يتشاءمون و يحزنون ويغضبون.(1) و نفس النهج تقريبا سار الشاعر"هزيود"(عاش في القرن 8 ق،م) و الذي نظم ديوانين:"الأعمال و الأيام" و"أصل الآلهة" و قد سمى أرسطو هؤلاء الشعراء باللاهوتيين لمعالجتهم العلم في صورة أسطورة.
و لكن رغم ولاء اليونانيين الشديد للآلهة إلا أنهم لم يجدوا في ذلك سبيلا للتخلص من حياة البؤس و الشقاء، فراحوا يبحثون عن طرق أخرى تقربهم أكثر من الآلهة و تخلصهم من المعاناة التي كانوا يعيشونها، فوجدوا ذلك في الديانات الشرقية القديمة التي كانت تعد بالخلود و الخلاص و بحياة النعيم و الاتحاد مع الآلهة، وقد كانت تلك الديانات سرية لا يعرف تعاليمها إلا الذين ينتمون إليها، وكانت مليئة بالمبادئ الأخلاقية و الدعوة إلى التطهير و اعتبار الجسد سجن للنفس يمنعها من ممارسة حرياتها في المعرفة و الاتحاد لذلك كان لابد من التخلص من مطالبه، فهو سبب المعاناة والشقاء، ومن أشهر المذاهب الدينية:
أ-النحلة الأورفية Orphisme
ترتبط بالشاعر و الواعظ الديني أورفيوس، وهو أشهر موسيقار عرفته الميثولوجيا اليونانية، يستطيع تحريك الحجر بموسيقاه، و الحيوانات تغني معه حين يعزف، و هو المعلم النبي الذي يعرف أسرار الآلهة و طبيعتها، و تعتقد الأورفية أن الإنسان مكون من عنصرين متعارضين: العنصر الطيطاني *les Titans و هو مبدأ الشر، وعنصر الخير يمثله ديونيسوس*(اله الخمر والعربدة والنبيذ) و أن الجسد بمثابة سجن للنفس، لذلك وجب على الإنسان أن يتطهر من الشر الكامن في داخله عبر التناسخ، الذي يتدرج بالنفس إلى أعلى مراتب الصفاء و الاتحاد، وهو ما يستلزم ولادات متعددة، فحياة أرضية واحدة لا تكفي، وهي ترى أن وجود النفس في الجسم عبارة عن عقاب لخطيئة سابقة في حياة أخرى أو للخطيئة الأصلية للنوع البشري أو تذوق التيتان les Titans للحم ديونيسوس، و أصولها مستمدة من الشرق(المصريين، الهنود) وهي ترى أن بقاء النفس في الجسم بمثابة تكفير عن خطيئتها، وهنا المطلوب من النفس في حياة ما قبل الموت أن تقوم بواجبات إضافية إلى جانب حياة الزهد، بإتباع طقوس تحت إشراف رجال الدين الأورفيين، و قد اكتشفت مقابر في ايطاليا الجنوبية وجدت بها صفائح ذهبية عليها إرشادات للنفس و ما يجب أن تسلك بعد الموت من طرق و ما تتلو من صلوات، وكانت هذه الصفائح دليلا قاطعا على أنهم عرفوا كتاب الموتى عند المصريين و أحذوا منه، كما أنهم اخذوا فكرة الولادات المتعاقبة عن الهنود أو الفرس.(1)
ب-ديانة الوسيس
من أشهر الديانات القديمة عند اليونانيين، كان يعبد أصحابها الهة الأرض ديمتر Demeterوهي ترمز للخصوبة، و كان اليونانيون يقيمون طقوسا كبيرة لهذه الديانة تضمنت الأسرار الصغيرة في الربيع و الأسرار الكبيرة في الخريف، يقام خلالها مشهد مسرحي شعائري يتقاسم فيه الأتباع الأفراح و المخاوف، و الغاية هي الاتصال بديانة الأرض و بلوغ الخصوبة في الحقول و الخلود في القبور.
ج-الحكماء السبع
يمثل هؤلاء مرحلة متوسطة بين هزيود(8 ق م) و بين ظهور الفلسفة والعلم الطبيعي على أيدي الفلاسفة الطبيعيين الأوائل، فهم مهتمون مثل هزيود بقواعد السلوك الأخلاقي، وبعضهم شعراء مثل هزيود و أغلبهم من رجال السياسة، اشتغلوا بصياغة قوانين لمدنهم، واستطاعوا تلخيص نصائح لمواطنيهم على شكل حكم صغيرة يسهل حفظها و يساعد قصرها على استمرار التأمل حولها، ولكنهم لا يبررنها بأدلة عقلية، و ما يجدر بالملاحظة أن أول الفلاسفة المالطيين هو طاليس، يعد أيضا ضمن الحكماء السبعة، فهو حلقة اتصال بين مرحلة في الفكر اليوناني نرتكز على إرساء قواعد السلوك في المدينة و مرحلة انطلق فيها ليستكشف أصل الكون.، و ربما كان طاليس ممن اشتغلوا بالسياسة في مدينته و وضع حكمه فيها، لهذا أدخل في عداد الحكماء السبعة، و أقوالهم كانت معروفة على مستوى كل المدن اليونانية، وهم بهذا رمز للوحدة الثقافية، و من الحكماء السبع: طاليس من مالطية، وتياكوس من ميتيلين، وبياس من بريين، وسولون(640-559ق م) من أثينا، و كان سولون أشهرهم جميعا، أشتهر بأنه واضع دساتير أثينا، والذي أنقذها من الاضطرابات الداخلية بين الطبقات،كما كان شاعرا، والحكم التي تنسب إليهم تعكس ملامح انتقال بين الحكم الإقطاعي و حكم تزداد فيه أهمية الفرد، وبين عصر كانت فيه السيطرة للديانات إلى حد ما، وعصر يزداد فيه جهد الفرد لتحديد سلوكه، وهي لا إفراط و لا تفريط، لا تجلس على مقعد القاضي و إلا كرهك من ستدينهم، ابتعد عن اللذة التي تنجب الحزن، حافظ أشد محافظة على الأمانة في سلوكك فهي أهم حتى من الوعد، لا تكذب و قل الحق، لا تصاحب أهل السوء، ارع والديك....الخ(1)
غير أنه في القرن 6ق م، حدث في اليونان انقلاب جذري كان له أثر في جميع نواحي الحياة، فقد امتد سلطان اليونانيون على الدول المجاورة، اتسعت أملاكهم ، فهاجروا إلى المستعمرات الجديدة وتعرفوا على شعوب جديدة عاداتهم و أخلاقهم، و صاحب هذا تطور اقتصادي وظهور نظام اقتصادي جديد يتمثل في النظام النقدي الذي أستبدل بنظام المقايضة و صاحب ذلك انقلاب سياسي و اجتماعي ، فالتطور الاقتصادي أدى إلى ظهور طبقة جديدة تنافس النبلاء الذين ورثوا ثرواتهم عن أملاكهم، في صراع مع الطبقة الحاكمة (النبلاء) انتهت بسيادة الطبقة الجديدة فانتصرت الديمقراطية (الانتقال من حكم النبلاء إلى الحكم الديمقراطي) فتحققت الحرية للشعب التي ناضل من أجلها قرونا طويلة، فظهرت الشخصية الفردية في الشعر و في السياسة، حيث أصبح الشعراء يكتبون قصائد للتنفيس عن مشاعرهم المكبوتة وانفعالاتهم، بعدما كانوا غير قادرين على ذلك، وقد أدى هذا إلى ظهور شعر جديد هو الشعر الغنائي الذي هو أشد اتصالا بالنفس، أضيف إلى شعر الملاحم، وفي المجال الديني، أصبح الفرد يتصل مباشرة بالإله، حيث أزيحت كل وساطة بين الفرد و الآلهة، هذا التحول السياسي و الاجتماعي والاقتصادي و الفني والديني، الذي كان سببا في ظهور الشخصية الفردية أدى إلى انتقال الإنسان من رواية الأساطير وقص القصص إلى التفكير و العلم ، فلم يعد الإنسان يقدس الكون و ظواهره بل أصبح يبحث عن عللها و أسبابها، و هنا ظهر التفكير الفلسفي و عذلك في القرن 6ق،م القائم على التفسير العقلاني للظواهر، و قد توجه العقل اليوناني إلى البحث عن العلل الأولى التي تقف خلف الظواهر و الكشف عن القوانين المتحكمة فيها، بمعنى في هذه المرحلة اتجه الفكر اليوناني نحو اللوغوس(التفسير العقلاني المنطقي للظواهر)(لابد من الإشارة إلى أن الفلسفة اليونانية تناولت مباحث عديدة وهي: مبحث الوجود(الأنطولوجيا) و مبحث الميتافيزيقا، مبحث المعرفة(الايبستمولوجيا) و مبحث القيم (الأكسيولوجيا): القيم الأخلاقية و الجمالية و المنطقية