Résumé de section

  • محاضرة: التقويم التربوي كمرآة للسياسة التربوية

    يُعد التقويم التربوي من أهم المكونات الحيوية في النظام التعليمي، لما له من دور محوري في قياس فاعلية العملية التربوية بجميع عناصرها. إلا أن دوره لا يتوقف عند مجرد جمع البيانات أو إصدار الأحكام بشأن أداء التلاميذ أو المعلمين، بل يتجاوز ذلك ليصبح أداة استراتيجية تسهم في بناء، توجيه، وتقويم السياسة التربوية نفسها. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار التقويم التربوي مرآة تعكس بوضوح طبيعة السياسة التعليمية المتبعة، ومدى واقعيتها ونجاعتها في تجسيد الأهداف التي تسطرها الدولة في ميدان التربية والتكوين.

    إن السياسة التربوية لأي دولة هي تجلٍّ للرؤية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تتبناها، وهي تسعى من خلالها إلى إعداد المواطن الذي يتماشى مع نموذج التنمية المنشودة. لذلك، فإن آليات التقويم التربوي، بأدواتها ومقاييسها، لا تُبنى بشكل اعتباطي أو محايد، بل تعكس ما تعتبره الدولة مهمًا في شخصية المتعلم وفي مخرجات التعليم. فإذا كانت السياسة التربوية تركّز على تنمية القدرات الإبداعية، فإن التقويم سيتّجه إلى قياس مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات. أما إذا كانت السياسة التربوية تهدف إلى تحقيق معدلات نجاح مرتفعة في الامتحانات الموحدة فقط، فإن أدوات التقويم ستقتصر على قياس الحفظ والاسترجاع للمعلومات.

    من هذا المنطلق، فإن نتائج التقويم التربوي تمثل تغذية راجعة فعالة للسياسة التعليمية، فهي تكشف عن نقاط القوة والضعف في المناهج الدراسية، وفي طرائق التدريس، وفي كفاءة المعلمين، وحتى في عدالة توزيع الموارد التعليمية. وغالبًا ما تكون هذه النتائج محفزًا لاتخاذ قرارات إصلاحية كبرى، سواء من حيث تعديل البرامج والمقررات، أو مراجعة أساليب التقويم نفسها، أو إعادة النظر في منظومة تكوين المعلمين. بذلك، يصبح التقويم وسيلة لتطوير السياسة التربوية، وليس مجرد أداة للحكم أو التصنيف.

    ومما يدعم هذه العلاقة الجدلية أن الدول التي تعتمد سياسات تربوية واضحة وواقعية، تنبني على معطيات علمية وبيانات دقيقة، غالبًا ما توظف تقويمًا تربويًا متقدمًا ومتعدد الأبعاد. فمثلًا، في بعض الأنظمة التربوية المتطورة كفنلندا وكندا، لا يُنظر إلى التقويم على أنه اختبار نهائي فقط، بل هو عملية مستمرة ومتكاملة تساهم في تحسين التعلم وليس فقط قياسه. هذه الأنظمة تدمج بين التقويم التكويني، الذي يرافق العملية التعليمية، والتقويم الإجمالي، الذي يقيم النتائج النهائية، مما يعكس فلسفة تربوية شمولية تنظر إلى التعليم كمسار لبناء الإنسان لا مجرد جسر للحصول على الشهادات.

    وفي السياق الجزائري والعربي عمومًا، يمكن ملاحظة أن العلاقة بين التقويم والسياسة التربوية لا تزال تحتاج إلى مزيد من التوطيد والوضوح. فكثيرًا ما يتم تطبيق إصلاحات تعليمية دون الاعتماد على نتائج تقويم موضوعي للمراحل السابقة، أو يتم إجراء اختبارات وطنية دون أن تُستثمر نتائجها في تحسين المحتوى التعليمي أو ظروف التمدرس. كما أن التركيز المفرط على المعدلات ونسب النجاح قد يحجب المشكلات الحقيقية في جودة التعليم، مثل ضعف مهارات الفهم، أو غياب التفكير النقدي، أو ضعف العلاقة بين المدرسة وسوق العمل.

    من بين الإشكاليات الكبرى التي تكشفها ممارسات التقويم التربوي في واقعنا، نجد غياب العدالة في التقييم بسبب الفوارق الجغرافية والاجتماعية، وضبابية المعايير في بعض الاختبارات، إضافة إلى الضعف في تكوين الفاعلين التربويين على ثقافة التقويم البنّاء. هذه الممارسات قد تؤدي إلى نتائج غير دقيقة، وبالتالي إلى قرارات سياسية غير ملائمة أو حتى مضللة. لذا فإن تطوير العلاقة بين التقويم والسياسة التربوية يقتضي تكوينًا منهجيًا للمعلمين والإداريين في مجالات التقويم، مع دعم استقلالية الهيئات المكلفة به، واستعمال أدوات حديثة تجمع بين الدقة والموضوعية، مثل الأنظمة الرقمية وتقنيات تحليل البيانات الكبرى.

    وفي الختام، فإن التقويم التربوي لا يمكن فصله عن الإطار العام للسياسة التربوية، بل يجب أن يُبنى في ضوء الأهداف الكبرى التي تسطرها الدولة، وفي الوقت ذاته يجب أن يُسهم في تصحيح مسار هذه السياسة بناءً على النتائج الميدانية. فحين يُمارَس التقويم بمهنية وشفافية، يمكن له أن يكون ليس فقط مرآة للسياسة التربوية، بل أداة لتقويمها ومرافقتها نحو تحقيق تعليم أكثر عدالة وفعالية وجودة.