المحاضرة 4: مجالات التقويم التربوي
Section outline
-
محاضرة: مجالات التقويم التربوي
يُعد التقويم التربوي عنصرًا محوريًا في المنظومة التعليمية، كونه يمثل الوسيلة التي من خلالها يتم تحديد مدى نجاح العملية التعليمية في تحقيق أهدافها، كما أنه أداة لاتخاذ القرارات التربوية المناسبة، سواء على مستوى المتعلم أو المعلم أو المؤسسة التعليمية ككل. والتقويم ليس ممارسة حيادية أو تقنية بحتة، بل هو انعكاس لتصورات فلسفية وتربوية واجتماعية. ولهذا، فإن دراسته ضمن تخصص علم اجتماع التربية تتيح لنا فهمه كأداة لإنتاج المعنى، وإعادة تنظيم الواقع المدرسي والاجتماعي.
يُصنف التقويم التربوي إلى أنواع متعددة، كل منها يؤدي وظيفة معينة في سياق العملية التعليمية. أول هذه الأنواع هو التقويم التشخيصي، ويُستخدم عادةً في بداية العملية التعليمية، حيث يهدف إلى الكشف عن خلفية المتعلم المعرفية، ورصد نقاط القوة والضعف لديه، وتحديد الحاجات التعليمية الفردية، مما يساعد المعلم على تخطيط التدريس بشكل يتناسب مع الفروق الفردية بين الطلبة. أما النوع الثاني فهو التقويم التكويني (أو البنائي)، ويُمارس خلال سيرورة التعلم، إذ يُستخدم كأداة لتغذية راجعة مستمرة تساعد المتعلم على تحسين أدائه، كما تمكّن المعلم من تعديل استراتيجياته التعليمية. التقويم التكويني يعزز مشاركة المتعلم في بناء تعلمه الذاتي، ويؤدي دورًا مهمًا في الحد من الفشل الدراسي إذا ما تم تفعيله بفعالية.
أما النوع الثالث، فهو التقويم الإجمالي (أو الختامي)، ويتم عادةً في نهاية فترة تعليمية معينة، كالفصل الدراسي أو الوحدة التعليمية، وهو يهدف إلى إصدار حكم نهائي على مدى تحقق الأهداف التعليمية. غالبًا ما يُستخدم هذا النوع من التقويم في القرارات المصيرية، كترفيع التلميذ أو منحه شهادة أو تقويم البرامج. غير أن التقويم الإجمالي كثيرًا ما يُنتقد لكونه يعتمد بشكل كبير على الاختبارات الكمية، ويغفل الأبعاد الشخصية والاجتماعية والمعرفية المتكاملة للمتعلم. وفي هذا السياق، برزت الحاجة إلى أنماط تقويم أكثر شمولية، تأخذ بعين الاعتبار السياق الاجتماعي والثقافي والتربوي.
ومن أنواع التقويم كذلك، التقويم الذاتي، حيث يقوم المتعلم أو المعلم بتقويم أدائه بنفسه، ما يعزز المسؤولية والوعي الذاتي. وهناك أيضًا التقويم التشاركي، الذي يدمج أطرافًا متعددة كالمتعلم، المعلم، أولياء الأمور، والمجتمع المحلي، مما يجعله أداة فعالة في تعزيز الديمقراطية التربوية.
وبالإضافة إلى أنواع التقويم، فإن للتقويم مجالات متعددة تغطي مختلف جوانب النظام التربوي. أول هذه المجالات هو تقويم المتعلم، وهو المجال الأكثر شيوعًا في الأوساط التعليمية، حيث يهدف إلى قياس المعرفة والمهارات والكفايات التي اكتسبها المتعلم. إلا أن هذا النوع من التقويم لا ينبغي أن يقتصر على الاختبارات الكتابية، بل يجب أن يشمل تقويم القدرات التواصلية والاجتماعية والوجدانية، خاصة إذا كنا نتبنى مقاربة سوسيولوجية تأخذ في الاعتبار الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للمتعلم.
مجال آخر مهم هو تقويم المعلم، والذي لا يعني فقط تقويم معرفته الأكاديمية، بل يشمل أسلوبه في التدريس، قدرته على التواصل، حسه التربوي، مهاراته في إدارة الصف، ومدى مراعاته للبعد الإنساني والاجتماعي في تعامله مع المتعلمين. وفي هذا الإطار، لا بد من اعتبار أن أداء المعلم يتأثر بدوره بالظروف المؤسسية والسياسات التعليمية، وبالتالي فإن تقويمه ينبغي أن يتم في إطار نظرة شمولية.
من المجالات المهمة أيضًا تقويم المناهج الدراسية، ويشمل تحليل مدى ملاءمتها لحاجات المتعلمين والمجتمع، مدى ارتباطها بسوق العمل، وإدماجها للثقافة المحلية والقيم الوطنية. كما يُعد تقويم المؤسسة التعليمية مجالاً لا غنى عنه، ويتعلق بدراسة أداء المدرسة كوحدة تنظيمية: البنية التحتية، المناخ المدرسي، طرق التسيير، الدعم النفسي والاجتماعي، ونوعية العلاقات داخل المؤسسة.
وفي العصر الرقمي، أصبح من الضروري الحديث عن تقويم التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد، وهو مجال حديث يتطلب أدوات جديدة قادرة على تقويم التعلم في بيئة افتراضية، مع مراعاة الفوارق الرقمية والاجتماعية بين المتعلمين. كما برز كذلك تقويم السياسات التعليمية كمجال استراتيجي يربط بين المخرجات التعليمية والأهداف التنموية للمجتمع، ويتطلب مؤشرات كمية ونوعية لرصد العدالة التربوية، الإنصاف، والمردودية الداخلية والخارجية للنظام التربوي.
تُظهر لنا هذه الأنواع والمجالات أن التقويم التربوي ليس مجرد إجراء تقني، بل هو عملية معقدة تتداخل فيها الأبعاد التربوية والاجتماعية والسياسية. ولهذا، فإن علم اجتماع التربية مدعو إلى تقديم قراءات نقدية للتقويم، تكشف عن أبعاده الرمزية والثقافية، وتسعى إلى تطوير نماذج أكثر شمولية وإنصافًا، خاصة في ظل تفاقم الفجوات الاجتماعية والمعرفية بين المتعلمين.
-
رابط فيديو المحاضرة لطلبة ماستر1 علم الاجتماع التربية