المحاضرة مدخل مفاهيمي حول التقويم التربوي
Section outline
-
مدخل مفاهيمي حول التقويم التربوي
يُعد التقويم التربوي أحد الركائز الأساسية في العملية التعليمية، إذ يمثل الأداة المنهجية التي تتيح فحص مخرجات التعليم ومدى تحقق الأهداف التربوية، كما يُستخدم لتوجيه قرارات المعلمين والمخططين التربويين وتحسين البرامج التعليمية. فالتقويم ليس مجرد عملية قياس لنتائج المتعلمين، بل هو عملية أعمق تتضمن إصدار أحكام تستند إلى معايير علمية ومعطيات موضوعية بهدف التطوير المستمر. وتبرز أهمية المقاربة السوسيولوجية لفهم أبعاد التقويم، كونه لا يتم بمعزل عن السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تُؤطر المؤسسة التعليمية.
في بدايته، عرف التقويم باعتباره عملية تهدف إلى التحقق من مدى تحقق الأهداف التعليمية، لكن مع تطور البحوث التربوية توسع المفهوم ليشمل تحليل المعطيات التعليمية وتقديم تغذية راجعة تساعد في تحسين الأداء وتطوير المناهج والبرامج الدراسية. تختلف أنواع التقويم باختلاف التوقيت والوظيفة؛ فهناك التقويم التشخيصي الذي يُستخدم قبل انطلاق العملية التعليمية لفهم قدرات المتعلمين ومدى جاهزيتهم، والتقويم التكويني الذي يُصاحب العملية التعليمية لتصحيح المسار وتقديم الدعم، والتقويم الإجمالي الذي يُستخدم بعد انتهاء التعلم لإصدار حكم نهائي على النتائج، بالإضافة إلى التقويم المستمر الذي يُواكب تطور المتعلم طوال السنة الدراسية.
تتنوع أدوات التقويم التربوي بين الاختبارات بأنواعها، والملاحظة الصفية، والاستبيانات، والمقابلات، وملفات الإنجاز، والعروض التقديمية، والمشاريع الجماعية. وتكمن أهمية تنوع هذه الأدوات في كونها تسمح بتقويم الجوانب المعرفية والمهارية والوجدانية للمتعلم، وتُراعي الفروقات الفردية بين المتعلمين.
من منظور سوسيولوجي، يُنظر إلى التقويم التربوي كآلية لها أبعاد رمزية واجتماعية. فبحسب علماء الاجتماع التربوي، لا يمكن فصل التقويم عن بنيات السلطة والمعايير الثقافية السائدة في المجتمع. وقد أشار "بيير بورديو" إلى أنّ التقويم قد يُستخدم كأداة لإعادة إنتاج الفوارق الطبقية من خلال فرض معايير ثقافية معينة على جميع المتعلمين دون مراعاة خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، ما يؤدي إلى تهميش البعض وتعزيز نجاح فئات أخرى. ومن هذا المنظور، فإن التقويم ليس محايدًا كما قد يبدو، بل قد يكون وسيلة للفرز الاجتماعي والتمييز الرمزي داخل المدرسة.
كما أن أنظمة التقويم تختلف من مجتمع لآخر، وتعكس في جوهرها الفلسفة التربوية السائدة. فبينما تعتمد بعض الدول كفنلندا على نماذج تقويمية تشاركية وبنائية تُشجع التفكير النقدي والتعلم الذاتي، لا تزال أنظمة تعليمية أخرى، منها الجزائر، تركّز على الامتحانات الموحدة والتقويم الإجمالي، ما يُقيد فرص الابتكار ويُقلل من فعالية التقويم التكويني والبديل.
ومن هنا، أصبح من الضروري إعادة النظر في وظائف التقويم من حيث كونه ليس مجرد وسيلة للحكم على المتعلم، بل أداة للتوجيه والتحفيز والبناء. فالتقويم العادل ينبغي أن يكون تشاركيًا، يدمج المتعلم في عملية التقييم ويشجعه على تقييم ذاته وتطويرها. كما يجب أن يكون التقويم شموليًا، يأخذ في الحسبان مختلف أبعاد شخصية المتعلم، ويستخدم أدوات متنوعة تراعي الذكاءات المتعددة والأنماط المختلفة للتعلم.
في الختام، يمكن القول إنّ التقويم التربوي في ضوء المنظور السوسيولوجي لا يجب أن يُفهم فقط كآلية تعليمية، بل كظاهرة اجتماعية تعكس بنية المجتمع ومفاهيمه عن الجدارة والنجاح. وبالتالي، فإن تطوير منظومة التقويم يتطلب وعيًا نقديًا بأبعاده الثقافية والسياسية، وسعيًا جادًا نحو تقويم عادل، تشاركي، وهادف، يعزز من جودة التعليم ويسهم في تحقيق الإنصاف الاجتماعي داخل المدرسة وخارجها.
-
موجهة لطلبة ماستر 1 علم الاجتماع التربية
-
موجهة لطلبة ماستر 1 علم الاجتماع التربية
-
رابط فيديو المحاضرة لطلبة ماستر1 علم الاجتماع التربية
-