المحاضرة رقم (5): أساليب التنشئة الاجتماعية والعنف المدرسي

أولا- التنشئة الأسرية ( التعريف –الأهداف  -الأهمية):

1-تعريف التنشئة الأسرية:

   هي عملية تعلم وتعليم وتربية، تقوم على التفاعل الاجتماعي وتهدف الى اكساب الفرد سلوكيات ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة تمكنه من مسايرة جماعته، والتوافق الاجتماعي معها، وتكسبه الطابع الاجتماعي وتيسر الاندماج في الحياة الاجتماعية (1)

   يقصد بالتنشئة الأسرية في هذا المقال بأساليب التنشئة الاجتماعية ومنظومة القيم التي تنقلها للأطفال.

2- أهداف التنشئة الأسرية:

  تتمثل أهداف التنشئة الأسرية في النقاط التالية:

- تعليم النشأ كيف يتعلم بطريقة إنسانية، وإكسابه شخصيته في المجتمع.

- تلقين النشأ قيم ومعايير وأهداف الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها.   

 -تلقين النشأ النظم الأساسية والتي تبدأ من التدريب على النظافة حتى الامتثال لثقافة المجتمع

 -تعليم النشأ الأدوار الاجتماعية ومواقفها المدعمة، وإشباع حاجاته البيولوجية والاجتماعية.

-دمج النشأ  في الحياة الاجتماعية من خلال إكسابه المعايير والنظم الأساسية.

-محاولة القضاء على نزعات الفرد الأنانية والانفرادية، وترويضه على التعاون والإخاء وحب الغير وكيفية تبادل الخدمات والمنافع.(2)

3-أهمية التنشئة الأسرية:

      تتبين أهمية التنشئة الأسرية بالنسبة للطفل في النقاط التالية:

     -أن لا يتأثر الطفل بأي جماعة أخرى غير جماعة الأسرة .

-          قلة خبرة الطفل وضعف ارادته، وحاجته للرعاية الدائمة .

-الأسرة هي أول من يستقبل المولود الجديد . وأكبر مجال اجتماعي  يقضي فيه الطفل أخصب وأطول مراحل عمره، وأول بناء يتم فيه صقل الشخصية وتعديل السلوك والتطبيع الاجتماعي .

-          إن العمليات التي تتم داخل الأسرة تعد حيوية بالنسبة لاستمرار الاجتماعي للحياة، وهي السبيل الى تحديد ملامح الحياة بمستوياتها الاجتماعية والمادية (3)

ثانيا- العنف المدرسي ( التعريف- الأسباب):

1-تعريف العنف المدرسي:

    عرف أحمد حويتي العنف المدرسي بأنــــه: " مجموع السلوك غير المقبول اجتماعيــــــا، بحيث يؤثر علــــــى النظــــام العـــــام للمدرسة، ويؤدي إلى نتائج سلبية بخصوص التحصيل الدراسي ويحدده في: العنف المــادي كالضرب والمشـــاجرة، السطو على ممتلكات المدرسة أو الغير، التخريب داخل المدرسة، الكتابة على الجدران، الاعتداء الجنسي، القتل، حمل السلاح والعنف المعنوي كالسب والشتم، السخرية، الاستهزاء والعصيان "(4).

    العنف المدرسي في هذه الدراسة هو السلوكيات غير السوية المتمثلة في العنف سواء المادي أو المعنوي الممارس من طرف المتعلمين.

2-أسباب العنف المدرسي:

   يرجع العنف المدرسي الى عدة أسباب، فمنها ما يرجع  الى الأسرة والمدرسة ، ومنها ما يرجع الى كل من جماعة الرفاق ووسائل الإعلام. تتمثل العوامل الأسرية في أساليب التنشئة غير السوية، كالحماية الزائدة والقسوة والتفرقة بين الأبناء والتذبذب في المعاملة، بالإضافة الى الصراعات الأسرية والانفصال بين الأبوين.(5)  

ثالثا-كيف تقي التنشئة الأسرية من ظاهرة العنف في الوسط المدرسي؟:

      تقوم التنشئة الأسرية على  ثلاث دعامات أساسية هي: الأساليب المتبعة في عملية التنشئة الاجتماعية، ومنظومة القيم التي تنقلها، ومدى قدرتها على تلبية حاجات الطفل، فلكل منهم تأثيره الواضح في تشكيل السلوك، بمعنى أن هناك أساليب في التنشئة الأسرية تغذي وتنمي السلوكيات السوية، كما أن للقيم دورها الواضح في بلورته لما تحمله من قيم ثقافة السلم، من جهة أخرى أن إشباع حاجات الطفل الأساسية بطريقة سليمة لها دور فاعل في تشكيل ممارسات وتفاعلات تتوافق مع ثقافة المجتمع.

    في هذا المجال سيتم التطرق الى دور التنشئة الأسرية في الوقاية من العنف المدرسي، من منطلق أن هاته الظاهرة لم تولد من فراغ، بل كانت نتاجا لنمط معين من التنشئة، ومن منظومة قيمية معينة اكتسبها الفرد بالتحديد من الأسرة، أو نتاجا لخلل معين في إشباع حاجات الطفل.

1-أساليب التنشئة الأسرية حلا وقائيا من ظاهرة العنف المدرسي:

      يرجع العنف الممارس في الوسط المدرسي الى الأساليب الخاطئة في  عملية التنشئة الأسرية الذي تستخدمه الأسر غير واعية في بعض الأحيان بمخلفاتها، بل مدركة بأنه الأسلوب الأنجع في التربية، والمحقق للشخصية السوية. إلا أنه في حقيقة الأمر يكسب يل يغذي وينمي السلوكيات العنيفة، التي تنقل مع الطفل من الأسرة الى المدرسة.

      تتمثل أساليب التنشئة الأسرية التي تكسب الطفل السلوكيات العنيفة، التي تبقى لصيقة بتفاعلاته المختلفة حتى في الوسط المدرسي، من منطلق أن الأسرة هي المسؤولة عن تشكيل الملامح الرئيسية لشخصية الطفل.

     من بين هذه الأنماط نمط القسوة والتسلط، الذي يتميز بضبط صارم وإيقاع للعقاب المتكرر، وعدم الاستماع للطفل، هذا ما يشعره بالتعاسة والانسحاب وعدم الثقة في الآخرين، والعداوة وحتى ضعف التحصيل الدراسي .(6)

     إذن، إن هذا النمط من التنشئة الأسرية، وما يترتب عنه من مكنونات داخلية سلبية تطبع سلوك الطفل بالعنف كطريقة للتفاعل داخل الأسرة وخارجها ليمتد الى الوسط المدرسي، الذي يحتضن أطفال تشكلت الملامح الرئيسية لشخصيتهم.

   كما يترتب عنه كذلك، وانطلاقا من واقع الحياة اليومية التي أكدت أن ممارسة التسلط والقسوة، ينجر عنه ضعف التحصيل الدراسي، بسبب عدم قدرة الطفل على التركيز، بمعنى التشتت، الى جانب شعور الطفل بالخوف جراء هذا الأسلوب من التنشئة، فلا يستطيع بذلك المشاركة داخل الصف سواء سائلا أو طالبا للشرح أكثر من المعلم، كما أن لضعف التحصيل الدراسي دورا في إفراز ظاهرة العنف في الوسط المدرسي، من منطلق الغيرة أو للتعبير عن الفشل، أو حتى للتأثير على درجة استيعاب زملائه طالما أنه يعاني من ضعف التحصيل. إذن فممارسة السلوك العنيف داخل الوسط المدرسي يعود بالأساس الى أسلوب التنشئة الأسرية المبني على التسلط والسيطرة.               

      يجد هذا تدعيما له من النظرية السلوكية التي ترى أن العنف مكتسب، يعود الى المجتمع العنيف الذي يعيش فيه الطفل، المبني على السلطة والسيطرة الأبوية (7)

     كما أن لأسلوب الحماية الزائدة المتمثل في تدخل الوالدين في كل شؤون أبنائهم لدرجة انجاز الواجبات والمسؤوليات التي يستطيعون القيام بها، فلا تتاح لهم فرصة اتخاذ قراراتهم بأنفسهم، هذا ما يفقدهم القدرة على تحمل المسؤولية في المستقبل (8)

  والعنف في الوسط المدرسي ما هو إلا انعكاس لعدم الشعور بالمسؤولية، الذي كان نتاجا لهذا النمط من التنشئة. بل هو سلوك غير مسؤول كان نتاجا لعدم تعلم الطفل كيفية صنع قراراته واتخاذها. كما يمكن أن ينجر من عدم تعلمه قيادة نفسه، اكتساب السلوك العنيف من جماعة رفاقه من خلال العدوى الاجتماعية لكونه تابعا ومنقادا، في ظل مجتمع استهلاكي مادي يركز على الجانب الملموس من الحياة غير مبالي بالجانب الفعلي لها، فيقع بذلك فريسة للعنف من منطلق مبدأ التبعية أو اللامسؤولية.

   كما أن إهمال الطفل وتركه دون تشجيع على السلوك المرغوب فيه أو محاسبته على السلوك غير المرغوب، وعدم الإصغاء لحديثه يشعره بضعف الإحساس بوجوده وضعف الشعور بالانتماء، واللامبالاة بالإنجازات التي يحققها، كما أن افتقاره إلى توجيه وارشاد والديه يجعله فريسة سهلة للوقوع في الانحراف .فالإهمال يؤدي إلى عدم الإحساس بالمرغوبية الاجتماعية ، وإلى ضعف الشعور بالذات "(9)

    فعدم الاهتمام بالطفل يغرس بداخله الرغبة في ممارسة العنف كوسيلة لتحقيق ذاته وإثبات وجوده، وكطريقة للتعويض عن النقص الذي بداخله. والذي أصبح لصيقا بشخصيته ، فيمتد الى الوسط المدرسي من خلال  قيامه بنفس  السلوكيات، لأن الخلل بداخله المتمثل في الشعور بالدونية حتى مع زملائه، فيثبت ذاته من خلال العنف الذي كان نتاجا لأسلوب تنشئة أسرية خاطئة.      

     ومن بين أنماط التنشئة الأسرية التي تفرز العنف المدرسي، هو التذبذب في المعاملة، المتمثل في التقلب في معاملة الطفل بين اللين والشدة، حيث يعاقب تارة على نفس السلوك  بحكم أنه خاطئ ، ومرة أخرى يغض النظر عن هذه الممارسة، فهذا التذبذب  ما بين اللين والقسوة، يجعل الطفل قلقا غير مستقر، ويترتب على هذا النمط شخصية متقلبة متذبذبة (10)

     إن عدم تحقيق الصحة النفسية، جراء هذا الأسلوب من التنشئة الاجتماعية التي ينجر عنه العديد من المشاعر السلبية كالشعور بالقلق والتوتر، الى جانب عدم القدرة على التمييز ما بين الخطأ والصواب، يدفع بالطفل الى ممارسة العنف، الذي يمتد الى الوسط المدرسي، وخاصة ضد المتعلمين الذين يمتزون بأداء متميز، ليصبح العنف هو وسيلة تعبيره عن فشله وضعفه وعن ما بداخله من شحنات سلبية.

  كما يؤدي كذلك هذا الأسلوب من التنشئة الاجتماعية الى ضعف التحصيل الدراسي، نتيجة لعدم قدرة الطفل على التركيز، فيلجأ الى العنف لإثبات وجوده، ولتعويض ضعف تحصيله.

   يجد هذا الرأي دعامة لصحته من نظرية الدوافع التي ترى أن الفرد الذي يشعر بالعجز، وعدم القدرة على إثبات وجوده ومكانته في المجال الذي يوجد فيه يستطيع عن طريق العنف إثبات قدرته الجسدية (11)

    إذن للتقليل من العنف المدرسي، يجب أن تتبع الأسرة  الأسلوب السوي في عملية التنشئة الاجتماعية، بهدف تحقيق  السلامة النفسية التي تنعكس في تفاعلات الطفل وسلوكياته المختلفة التي تعكس القيم التي بداخله.

    يتمثل هذا في نمط السواء أو التربية السوية التي تضع الأمور في نصابها فلا يتساهل الآباء في ظروف تستوجب الشدة، ولا يتشددون في ظروف تستوجب المرونة واللين، فهذا النمط من التربية يعمل على تكوين شخصية سوية، تتسم بالقدرة على تحمل المسؤولية، لديها الثقة بالنفس، والقدرة على ضبط الذات وعلى تكوين علاقات جيدة.( 12)

  كما يجب أن تركز الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية على تعليم أبنائها كيفية بناء علاقات اجتماعيه سليمة، وكيفية التفاعل في المواقف المختلفة. مع استخدامهم لأسلوب المكافأة والتعزيز للسلوكيات السوية، والتنويه من خلال العقاب سواء المعنوي أو المادي للسلوكيات غير السوية. ولا يتم التركيز فقط على الحاجات المادية على حساب الجوانب الأخرى.

   إذن إن التربية السوية للأطفال، هي التي تجمع ما بين اللين والقصوى، تربية قائمة على الحوار والاحترام، خالية من نمط الأوامر متبعة لمبدأ الاقناع ما بين الآباء والأبناء، فيكتسب الأطفال من خلال هذا الأسلوب الروح النقدية، التي تقوم بتحليل وتفسير مختلف التفاعلات والعلاقات بل السلوكيات  قبل تجسيدها، بمعنى الفكر يسبق السلوك، وبذلك يستطيعون وضع الأمور في ميزان ثقافة المجتمع النابعة من الدين الاسلامي ومن الثقافة الوضعية التي لا تتعارض مع معالم الدين، فهذا الضمير الأخلاقي الحي الذي اكتسبه الأبناء من خلال التنشئة السوية هو الكفيل بإبعاد الأطفال عن ممارسة العنف في الوسط المدرسي، حتى في حالة وجوده في هذا المجال الاجتماعي.

2- التنشئة الأسرية القائمة على ثقافة السلم حلا وقائيا من ظاهرة العنف المدرسي:

     للوقاية من ظاهرة العنف المدرسي يجب أن تقوم التنشئة الأسرية على ثقافة السلم، والتي تعني نبذ العنف، وحل الخلافات بطريقة سلمية، واعتماد الحوار وحرية التعبير دعامة لكل التفاعلات، وكل هذا وفقا لثقافة المجتمع كمصفاة للحكم على مختلف السلوكيات .فإذا نشئ الفرد على هذه القيم، فسينتقل الى المدرسة غير محدثا، وغير مكتسبا للسلوكيات العنيفة حتى في حالة وجودها.

     في هذا الصدد يرى طه عبد العظيم حسين وسلامة عبد العظيم حسين في كتابهما "استراتيجيات وبرامج مواجهة العنف والمشاغبة في التعليم" أن للآباء دور جوهري في الوقاية من العنف، وهذا من خلال مناقشة الآباء للمشاكل المختلفة التي تواجه الأبناء بهدف حلها بطريقة سلمية. الى جانب تعليمهم المهارات الاجتماعية كالابتعاد عن استخدام العقاب البدني. مع ضرورة رفض التصرفات العدوانية والبعد عن تشجيع الأطفال على استخدام أسلوب العنف كوسيلة في حل النزاعات، وعدم إشعار الطفل بالنقص، سواء فيما يتعلق بالجانب التحصيلي أو الجسمـــي، الى جانب  عدم حل النزاعات الأسرية بين الزوج والزوجة في وجود الأبناء، بل مساعدتهم على تطوير الإحساس بالتعاطف مع الآخرين،  وتعليمهم كذلك احترام حقوق الآخرين في التصرف في ممتلكاتهم، ومساعدتهم على بناء مفهوم إيجابي نحو الذات ونحو الآخرين. الى جانب مناقشة الآباء أبناءهم بشأن ضرورة احترام وتقدير مبدأ الفروق الفردية، والتنوع والاختلاف في المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعرقية بين التلاميذ داخل المدرسة، وحثهم على تقبل حقيقة هذا التنوع دون تعصب، ومناقشة الإنجازات والأنشطة التي يمارسونها، كما يتعين على الآباء أيضا القيام بعدد من الاستجابات السلوكية تجاه أطفالهم مثل نمذجة السلوكيات الإيجابية والملائمة أمام الأبناء، إذ يتعين عليهم أن يكونوا قدوة لهم، ويعلمونهم الأساليب السوية في التعبير عن الانفعالات، وخاصة انفعال الغضب حتى يتحاشى الأطفال التعبير عن غضبهم وإحباطاتهم نحو الآخرين بطريقة مؤذية لفظيا أو جسميا، هذا بالإضافة إلى ملاحظة سلوك الأطفال ومراقبتهم والسؤال عن كل تفاعلاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية.(13)

     وعلى الآباء كذلك، استغلال علاقة الحب التي تربطهم بأطفالهم في إرشادهم وتهذيبهم، وأن يحرصوا على الاحتفاظ بتلك العلاقة، لكي يكون الأبناء أكثر التزام بتخليهم عن تنفيذ رغباتهم المتطرفة.(14

    من جانب آخر، يجب أن تهيء الأسرة الأبناء للاحتكاك بالعالم الخارجي، بمعنى تعلمهم ضرورة احترام الآخرين، ونبذ استخدام العنف، مهما كان الاختلاف.( 15) فقيمة تقبل الاختلاف، وحرية التعبير، واحترام الآخر مهما كانت أراءه، يهيئ الطفل لانتهاج السلم في حالة وجود صدام مع من يلتقي أو يتفاعل معهم في المدرسة.

     وفي سبيل إكساب الطفل ثقافة السلم، يجب أن يحافظ الآباء على الصحة النفسية لأبنائهم، لأن العنف ما هو إلا وسيلة للتعبير عن عدم إشباع حاجاته ورغباته، أو أنها أشبعت بطريقة غير سليمة.

   ومن أساليب المعاملة الوالدية الحاملة لثقافة السلم هي العدل ما بين الأبناء سواء في المعاملة أو في الهبات، لأن التنشئة الأسرية القائمة على أساس التمييز، ينتج عنها كما ورد في كتاب حنان عبد الحميد العناني : القلق، الحسد والغيرة والأنانية والعدوانية. ( 16)  فكل المشاعر والأحاسيس السلبية تدفع الطفل الى ممارسة العنف في أقل موقف يعترض حياته، هذا ما ينعكس على تفاعلاته في الوسط المدرسي، الذي ينتهج فيه كذلك ممارسة العنف بحكم عدم تحقيقه للصحة النفسية داخل الأسرة.

  

   لذا ولتفادي ممارسة الطفل للعنف في الوسط المدرسي، يجب أن تمثل الأسرة الاطار النفسي الذي يعمل على إشباع حاجاته، وتحديد سلوكه مما يضمن له الاطمئنان والاستقرار النفسي، والمأوى الذي يبعد عنه عوامل القلق والاضطراب، ويضمن له الحماية والكيان الاجتماعي، وينشئه على المعايير المتعارف عليها، فإذا أخفقت الأسرة في تحقيق ذلك نشأت شخصية عاجزة على التوفيق بين رغباتها وبين مطالب المجتمع الذي تعيش فيه.( 17)

       وللقضاء على العنف المدرسي، الذي قد ينتج بسبب كثافة الدروس أو ضعف الاستيعاب، أو المعاملة السيئة من طرف المعلم أو المتعلمين، يجب أن تعمل الأسرة على امتصاص هذه الضغوطات، بالإضافة الى ذلك اقناع الطفل بضرورة التقيد والانضباط وفقا لقيم ثقافة السلم النابعة من معالم الدين الاسلامي، وعدم استخدام العنف في أي ظرف من الظروف

     لذا يجب أن تكون الأسرة هي مصدر الاستقرار العاطفي والمرفأ الوحيد لإشباع الحاجات العاطفية، ووسيلة لتخفيف التوتر الذي يعانيه الفرد خارج أسرته لتحقيق التوازن العاطفي(18)

     فالأسرة السليمة هي التي تؤمن لأطفالها الطمأنينة النفسي والاجتماعي وتبعد عنهم عوامل القلق والاضطراب، وتدربهم على الالتزام بالمعايير المتعارف عليها اجتماعيا(19)

  تأسيسا على ما سبق، يجدر بنا القول، أنه في سبيل الوقاية من ظاهرة العنف المدرسي، يجب أن تنقل التنشئة الأسرية منظومة قيم قائمة على ثقافة السلم، وهذا من خلال السلوك في حد ذاته، الذي يتجسد من خلال تفاعلات الآباء، التي يجب أن تكون بعيدة عن العنف بكل أشكاله، الذي ينعكس سواء من خلال شجار الزوجين، أو في ممارسة إحداهما للسلوك العنيف اتجاه الآخر، أو كأسلوب لعقاب الأبناء، بالرغم من أنه قد يكون في الموقف الذي يفرض ذلك، بمعنى لا يجب أن يكون العنف هو لغة تفاعلات الأسرة.

    وأن لا توجه الأسرة أبنائها الى استخدام العنف في تفاعلاتهم خارجها، كأن ترشدهم الى ممارسة العنف على من يمارسونه ضدهم، فبهذا الأسلوب يكتسبون العنف، كما يمكن أن ينقلوه كذلك الى أقرانهم في المدرسة، وخاصة في المراحل الأخرى من حياة الطفل، كمرحلة المراهقة، والتي تصبح فيها جماعة الرفاق أكبر تأثير من الأسرة في حد ذاتها.

   في هذا المجال كذلك، يجب أن تقوم التنشئة الأسرية بترسيخ قيم ثقافة السلم، وهذا من خلال مراقبة تفاعلات جماعة رفاق أطفالها، فإذا كانت ممارسة للعنف، فيمكن أن تنقل ذلك لبقية أعضائها هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب كذلك مراقبة البرامج التلفزيونية ومواقع الأنترنيت التي يتابعونها، لما لها من تأثير فعال ونافذ في سلوكيات الطفل، فإذا كان مضمونها مغذي لثقافة السلم فستنقل ذلك لمن يتابعونها والعكس بالعكس.

    إن اكساب الأطفال ثقافة السلم، سواء من خلال تفاعلات أفراد الأسرة ، أو من خلال رقابة الأسرة لجماعة رفاقهم، وللبرامج التي يشاهدونها لا يجب أن يكون بأسلوب الأمر، بل أن يقوم على الحوار والاقناع، فتكون بذلك سلوكياتهم مبنية على الاحترام الذي يفوق تأثيره تأثير الخوف، وبذلك تصبح تفاعلاتهم المبنية على ثقافة السلم المجسدة في البيئة الأسرية هي نفسها القائمة في المجالات الاجتماعية الأخرى. ففي الكثير من الأحيان وانطلاقا من واقع الحياة الاجتماعية نلاحظ أطفال يمتازون بالهدوء وعدم التخريب، لكن بمجرد غياب آبائهم أو بخروج الأطفال من بيوتهم يمارسون كل أشكال العنف. لذا فالتنشئة القائمة على ثقافة السلم يجب أن تكون لصيقة بتفاعلات الطفل في كل مجالاته الاجتماعية. 

خلاصة

       إن الوقاية من ظاهرة العنف المدرسي تستوجب بالضرورة التساند الوظيفي التكاملي لكل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، لأن سلوك الطفل ليس نتاجا للتنشئة الأسرية فقط، بل هو انعكاس لما اكتسبه من مختلف الوسائط التي تفاعل ضمنها.

   غير أن للأسرة دور محوري في تشكيل السلوك الاجتماعي، وهذا نظرا للخصائص التي تميزها عن غيرها من وسائط التنشئة الاجتماعية، وبالتالي تستطيع من خلال قيامها بوظائفها أن تقي، أو على الأقل التقليل من ظاهرة العنف المدرسي، الذي أثبتت الشواهد الامبريقية وواقع الحياة الاجتماعية والمدرسية ارتباط هذه الظاهرة أشد الارتباط بالوسط الأسري وما يحمله من تفاعلات ومنظومة قيم.

 في هذا المجال، وفي سبيل الوقاية من العنف المدرسي، يجب أن تتبع الأسرة أسلوب التربية السوية في تنشئة أطفالها، التنشئة القائمة على العدل والحوار والاقناع، والحزم، فيكتسب بذلك الطفل الروح النقدية، التي لا تجعل منه شخصا منقادا بل مسؤولا وواعيا بما يقوم به، كما يجب أن تقوم التنشئة الأسرية بتعليم الأطفال كيفية صنع قراراته وكيفية اتخاذها. فهذا الأسلوب من التربية يقي الطفل من ممارسة السلوكيات العنيفة في الوسط المدرسي ، حتى في حالة وجودها، بحكم أن العنف المدرسي ما هو إلا  سلوك غير مسؤول. وما يدعم عدم ممارسة السلوكيات العنيفة هو استخدام الأسرة لأسلوب الضبط الاجتماعي، القائم على الثواب والعقاب في المواقف المستدعية لذلك.

  كما تعمل قيم ثقافة السلم المحتوية في عملية التنشئة الأسرية على الحد من ظاهرة العنف المدرسي، وهذا من خلال إكساب الأطفال قيم الاحترام والالتزام في تفاعلاتهم المختلفة على مستوى كل المجالات الاجتماعية، بما فيها الوسط المدرسي، وإعلامهم كذلك بوجود الفروق الفردية، واختلاف في مستوى الاستيعاب، وتقبل الاختلاف واحترام حرية التعبير، الى جانب احترام كل الفاعلين في الوسط المدرسي. بمعنى أن تقوم التنشئة على فكر ديني، مكون لضمير أخلاقي حمولته نابعة من معالم الدين الاسلامي الذي يرفض تماما كل أشكال العنف، ويتقبل وجود الاختلاف في المستوى المعقول.

     كما أن اشباع حاجات الطفل بطريقة سليمة يعمل على الحد من ممارسة العنف المدرسي، من منطلق أن السلوكيات العنيفة ما هي إلا تعبير عن الرغبة في إشباع حاجة معينة، أو كتعويض عن النقص في إشباعها، أو أنه قد تم اشباعها بطريقة غير سليمة.

    إذن إن الوقاية من العنف المدرسي يتأتى من خلال عدة مداخل يجب أن تتفاعل مع بعض في تساند وظيفي هدفها واحد، هو تحقيق التماسك والاستقرار الاجتماعي ككل، ويتم هذا من خلال عدة أطر، فعلى مستوى الأسرة، يجب أن تكون التنشئة الاجتماعية سوية وحاملة ليقم ثقافة السلم في سبيل تحويل الطفل من كائن بيولوجي الى كائن اجتماعي فاعل وبناء في الحياة الاجتماعية.


آخر تعديل: Tuesday، 16 February 2021، 10:32 PM