أهمية القطيعة الابستمولوجية

تعكس دورها الحيوي في تطور المعرفة العلمية وتغيير مفهومنا عن العالم.حسب التحليل :

1. فهم التحولات المعرفية

القطيعة الابستمولوجية تلعب دورًا أساسيًا في تحديد الفترات الزمنية التي تشهد تغييرًا جذريًا في الفكر والمعرفة. من خلال دراسة كيف تتبدل وجهات النظر، يمكننا التعرف على الحركات الفكرية الجديدة التي تتجاوز السائد، مثل الانتقال من الفكر الكلاسيكي إلى الفكر الحديث أو من النظم الفلسفية التقليدية إلى المنهج العلمي التجريبي.

2. تحديد الفجوات بين أنظمة المعرفة

إذا فهمنا الفجوات بين أنظمة المعرفة المختلفة، يصبح بإمكاننا التعرف على نقاط الضعف والقصور في المعرفة الحالية. هذه الفجوات تدفع الباحثين إلى البحث عن تفسيرات ونتائج جديدة، وتزيد من وعيهم بحتمية إعادة النظر في الفرضيات السابقة. إذ تساهم في الارتقاء بالمناهج العلمية وتعزيز النقد البنّاء للأفكار السائدة.

3. تحقيق التطورات العلمية الكبرى

تحتوي الكثير من التحولات الكبرى في العلم على قطيعة ابستمولوجية، مثل الثورة الكوبرنيكية، حيث تم استبدال نموذج مركز الأرض بنموذج الشمس المركزية. من خلال هذه القطيعة، تحرر العلماء من القيود التي فرضتها النظريات القديمة. ومن أجل تحقيق تطورات مشابهة، يتعين على الباحثين أن لا يتقيدوا بالأفكار التقليدية وأن يتقبلوا التغييرات الجذرية التي قد تظهر.

4. توسيع آفاق الفكر العلمي

توضح القطيعة الابستمولوجية كيف يمكن أن تؤدي التأملات النقدية في المعرفة إلى التخلي عن الأفكار القديمة واعتماد مفاهيم جديدة. هذا التوجه يشجع على الابتكار والتجريب، مما يساهم في تطوير أساليب جديدة وقدرات بحثية جديدة في مختلف المجالات العلمية.

5. تجنب الجمود الفكري

عندما ندرك أهمية القطيعة، فإننا نتجنب السقوط في فخ الجمود الفكري، حيث يتمسك الباحثون بالأفكار القديمة دون التفكير في بدائل جديدة. القطيعة تدعو إلى الاستمرار في التحقق من المعرفة والبحث عن طرق وأدوات جديدة لتحسينها. عوضًا عن التمسك بنظريات لم تعد صالحة، يتيح لنا ذلك الفرصة لاستكشاف ما هو غير معروف وغير متوقع.

6. المساهمة في التنوع المنهجي

تؤكد القطيعة الابستمولوجية على ضرورة اعتماد تنوع في المناهج البحثية. تفتح الأبواب لاستراتيجيات وممارسات جديدة بدلاً من الاقتصار على طرق معينة. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين نتائج البحث والتوسع في مجالات جديدة لم تُستكشف من قبل.

7. التأثير على القيم والمعايير الأخلاقية

القطيعة الابستمولوجية لا تؤثر في المعرفة العلمية فحسب، بل يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في القيم والمعايير الأخلاقية المرتبطة بالعلم. مع التحولات المعرفية، تظهر أسئلة جديدة تتعلق بالأخلاق، مثل الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا أو العلاقات بين المعرفة والسياسة، مما يدفع المجتمعات إلى إعادة التفكير في القيم الأساسية التي تحكم البحث العلمي.

تعكس القطيعة الابستمولوجية بالمعنى الباشلاري تحولًا نوعيًا وطفرة فكرية تتجلى في الانتقال من فكر علمي قديم إلى فكر علمي جديد. فالبنية العقلية ليست ثابتة؛ بل هي في تطور مستمر بفعل تأثير المعارف العلمية الحديثة. لذا، من الضروري أن يُبرز الفيلسوف القيم المعرفية الجديدة التي تتجلى مع كل مرحلة من مراحل تطور الفكر العلمي، ويظهر الأثر الذي تتركه هذه المعارف على بنيتنا المعرفية. بهذا، يصبح إبراز التأثير الذي تحدثه المعارف العلمية على تفكيرنا علامة بارزة للروح العلمية الجديدة.

يستخدم باشلار "لا" للدلالة على أطروحته الجديدة التي تفيد بأن التجربة الجديدة ترفض التجربة القديمة. فالجديد في العلم يقول "لا" للقديم، لكن هذه "اللا" ليست نهائية؛ لأن التجربة الجديدة ستصبح قديمة بمرور الزمن إن لم تعد تُجدد نفسها، مما يؤدي إلى الجمود والانغلاق. الفكر العلمي الجديد لا يتسم بالثبات، بل يتجدد باستمرار.

في خاتمة كتابه "فلسفة الرفض"، يؤكد باشلار موقفه، مستخدمًا لغة ساخرة، بأن العقل ملزم مرة أخرى بأن يطيع العلم، والهندسة، والفيزياء، وعلوم الحساب. ويشير إلى أن المذهب التقليدي الذي يؤمن بعقل مطلق وثابت ليس سوى فلسفة بالية، وهذا ما توصل إليه بعد جدالات ونقاشات حول الأطروحات السابقة، حيث كان تصورها للعقل سببًا في غياب فلسفة حقيقية للعلوم. العقل الثابت والمطلق، وفقًا له، ليس إلا وهمًا فلسفيًا عرقل الفكر البشري لفترة طويلة بمبادئ مقولات المنطق الأرسطي، في حين أن العقل الإنساني هو طاقة تتشكل بناءً على ما يمتلكه من معارف، والتأثير بينهما متبادل.

بناءً على ذلك، تكون مهمة فيلسوف العلم هي مواكبة العلم والتفاعل معه، في تعارض مع المهمة التقليدية للفلسفة. إذ يجب على فيلسوف العلم إبراز الأثر الذي تتركه القيم الابستمولوجية على بنيتنا المعرفية.

كما يرى باشلار أنه لا يمكن أن يتشكل العقل العلمي إلا من خلال تحطيم أفكار العقل غير العلمي. وبالتالي، يُشترط التقدم العلمي بتحول نفسي جذري يسميه "الردة" (conversion)، وهو تحول يشكل قطيعة حادة مع الأفكار المسبقة المدفونة.