الخطوط العريضة للقسم

  •  المنهج الاجتماعي:

    يعَدّ المنهج الاجتماعي في النقد الأدبي مقاربة تحليلية تركز على العلاقة التبادلية بين النص الأدبي والواقع الاجتماعي، وهو ما أدى إلى ظهور "نظرية الانعكاس". تفترض هذه النظرية أن الأدب يعكس الواقع الاجتماعي، ولكن ليس بصورة حرفية، وإنما عبر تمثل جوهره وصياغته في صور متعددة. فالنص الأدبي، وفقًا لهذه الرؤية، يتأثر بالواقع الاجتماعي ويؤثر فيه، في إطار علاقة جدلية قائمة على التأثير والتأثر المتبادل.
     
    نشأت نظرية الانعكاس في ثلاثينيات القرن العشرين، وكان من أبرز روادها جورج لوكاش، الذي أكد أن الأدب ليس مجرد انعكاس مباشر للواقع، بل هو إعادة تشكيل لهذا الواقع من خلال رؤية الكاتب وتحليله له. فالأديب لا ينقل الواقع كما هو، بل يُعيد إنتاجه وفق تصوره الذاتي، مما يجعل الأدب يتجاوز التقليد الحرفي إلى محاكاة أكثر عمقًا ودلالة.
     
    وتستند نظرية الانعكاس إلى أسس فلسفية مستمدة من أفكار كارل ماركس، الذي وضع أسس الفكر الاشتراكي. يرى ماركس أن المجتمع يتكوّن من بنيتين أساسيتين: البنية التحتية، التي تشمل وسائل الإنتاج كالآلات والمصانع والعمال، والبنية الفوقية، التي تضم الجوانب الفكرية والثقافية مثل القانون والدين والأدب. ووفقًا لهذه النظرية، فإن أي تغيير في البنية التحتية يؤدي بالضرورة إلى تغيير في البنية الفوقية، والعكس صحيح، حيث تؤثر التغيرات الفكرية والثقافية بدورها في تطور الواقع المادي للمجتمع.
     
    ولتوضيح ذلك بمثال، في المجتمعات الرأسمالية، قد يحدث صراع بين الطبقة العاملة وأصحاب رؤوس الأموال نتيجة التفاوت الاقتصادي. ووفقًا للنظرية الماركسية، فإن هذا الصراع في البنية التحتية يولد أفكارًا جديدة في البنية الفوقية، مثل الفكر الاشتراكي، الذي يسعى إلى تحقيق العدالة الاقتصادية. وعندما تترسخ هذه الأفكار، فإنها تعود لتؤثر في البنية التحتية من خلال تغيير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي إلى تهدئة الصراع أو إيجاد حلول له.
     
    بناءً على ذلك، ترى نظرية الانعكاس أن هناك علاقة وثيقة بين الأدب والمجتمع، حيث يعكس الأدب التطورات الاجتماعية ويعيد تشكيلها ضمن رؤية نقدية وتحليلية، مما يجعله عنصرًا فاعلًا في التفاعل الثقافي والتحولات الاجتماعية.
    المنهج الاجتماعي في النقد الأدبي: من ماركس إلى جولدمان
     
    يُعد كارل ماركس من أبرز رواد المنهج الاجتماعي، حيث قسّم المجتمع إلى بنيتين رئيسيتين: البنية التحتية، التي تشمل العلاقات الاقتصادية ووسائل الإنتاج، والبنية الفوقية، التي تضم الأيديولوجيا والفكر والثقافة. وقد أثّر هذا التصور في الدراسات الأدبية التي حاولت الربط بين الأدب والمجتمع.
     
    بعد ماركس، جاء جورج لوكاتش بوصفه منظِّرًا رئيسيًا للاتجاه الماركسي في النقد الأدبي، حيث درس العلاقة بين الأدب والمجتمع بوصفها علاقة انعكاسية، أي أن الأدب يُعبر عن الواقع الاجتماعي والثقافي. وقد طوّر مفهوم سوسيولوجيا الأجناس الأدبية، حيث ربط نشأة الأجناس الأدبية وازدهارها بطبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات. ومن أبرز دراساته تلك التي تناولت نشأة الرواية باعتبارها جنسًا أدبيًا نشأ وتطور بالتزامن مع صعود الرأسمالية العالمية والبرجوازية الغربية.
     
    لاحقًا، جاء لوسيان جولدمان ليبني على مبادئ لوكاتش ويطورها، إلى أن وصل إلى تأسيس اتجاه نقدي يُعرف باسم علم اجتماع الإبداع الأدبي. وقد اعتمد جولدمان على مجموعة من المبادئ العميقة والمتشابكة، يمكن تلخيصها فيما يلي:
     
    1. الأدب تعبير عن الوعي الطبقي
    يرى جولدمان أن الأدب ليس مجرد إنتاج فردي، ولا ينبغي التعامل معه على أنه تعبير عن وجهة نظر شخصية، بل هو تجسيد للوعي الطبقي للفئات والمجتمعات المختلفة. فالأديب، عند الكتابة، يُعبر عن منظور يعكس الوعي الجمعي والضمير الاجتماعي. ومن هنا، فإن جودة العمل الأدبي وإقبال القراء عليه يعتمدان على مدى قدرة الأديب على تمثيل الرؤية الجماعية وحاجات المجتمع. وإذا كان وعي الأديب زائفًا، فإنه يفقد قدرته على التأثير.
     
     
    2. البنية الدلالية الكلية
    يرى جولدمان أن كل عمل أدبي يمتلك بنية دلالية كلية، وهي المعنى العام الذي يُفهم من النص ككل. أثناء قراءة العمل، تتغير هذه البنية بشكل مستمر مع الانتقال بين أجزائه المختلفة، حتى تتبلور في النهاية كصورة متكاملة تعكس الوعي والضمير الاجتماعيين. وبالتالي، هناك علاقة وثيقة بين العمل الأدبي ودلالته، حيث يتناظر الأدب مع الوعي الجماعي.
     
    3. رؤية العالم
    من المفاهيم الأساسية لدى جولدمان مفهوم رؤية العالم، حيث يرى أن كل عمل أدبي يحمل في طياته رؤية محددة للعالم، ليس فقط على مستوى العمل المنفرد، بل في مجمل الإنتاج الأدبي.
     
    انطلاقًا من هذا المنظور، أسس جولدمان منهجه المعروف بـالتحليل البنيوي التكويني، وأجرى عدة دراسات في مجال علم اجتماع الأجناس الأدبية، كما فعل لوكاتش. ومن أبرز أعماله كتاب "من أجل تحليل سوسيولوجي للرواية"، الذي تناول فيه نشأة الرواية الغربية وتحولاتها المختلفة في ضوء تطور الفكر البرجوازي ورؤيته للعالم.