المحور الأول : مناهج النقد السياقي
Section outline
-
اتسم النقد في مراحله الكلاسيكية بالثبات والجمود، فقد كانت جل أحكامه ممعيرة ضمن قوالب محدد وقوانين صارمة لا يمكن الخروج عنها أو تجاوزها مثل وحدة الزمان والمكان ووحدة الحدث والدراما وغيرها...وقد ظل النقد الأوربي على هذا الحال حتى مع ظهور الكلاسيكية الجديدة إبان القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر إلى أن بدأت الرومانسية بالظهور في الأدب الأوربي ليتبعها بطبيعة الحال نقد جديد يستجيب لضرورات العصر وتحولاته الحضارية، وقد رافق هذا التجاوز والخروج انبثاق تيارات فكرية كثيرة أدت إلى ظهور المناهج السياقية التاريخية منها والاجتماعية والنفسية .
وقد اتسع النقد السياقي وتوسعت رقعته في أوربا خصوصا و أن بداية القرن التاسع عشر قد شهدت ثورة علمية ومعرفية جعلت مفكري ذلك العصر يعجبون بدقة العلوم وحتميتها ويقينها، فأرادوا أن يسقطوا هذا على الأدب بجعل النقد خاضعا لنظريات وأسس منهجية علمية تحكمه مادام النقد القائم على الانطباعية والذائقة التأثرية والسطحية لم يتمكن من استيعاب هذا الزخم المعرفي المواكب لروح العصر المتسمة بالروح العلمية الأمر الذي دفع النقاد إلى ابتكار مناهج جديدة تناقض وتختلف عن الطرق النقدية السابقة، في جعلها ذات طابع علمي بعيد عن الأحكام الجزافية النابعة عن تأثر وذوق وانطباع وعلى هذا الأساس جاءت المناهج النقدية السياقية ،والتي يقصد بها أن الشيء يفهم من خلال ربطه بالظروف المحيطة به، ما يعني البحث في أسبابه ودوافعه ونتائجه وعلاقاته الجدلية المتبادلة.
وإذا أردنا وضع تعريف شامل لمناهج النقد السياقي فسنقول أنها تلك " المناهج التي تعاين النص من خلال إطاره التاريخي أو الاجتماعي، أو النفسي، وتظهر السياق العام لمؤلفه، أو مرجعيته النفسية، وهي دعوة ضمنية إلى الإلمام بالمرجعيات التاريخية والسياقات المحيطة بالمبدع، بغية دخول النص"(1)[. 1]
بناءا على ذلك فإن عملية الوصول إلى أي عمل إبداعي والتمكن منه والغور في مكامنه تقتضي لا محالة المعرفة بالظروف الخارجة عنه والخلفيات المحيطة به سواء الإلمام بذات المبدع وبنفسيته أو بالظروف الاجتماعية التي يعيش فيها أو الاطلاع على الحوادث التاريخية المزامنة له، استنادا على استثمار كل هذه السياقات الخارجية والعلائق الموجودة بينها وبين النص الإبداعي نتمكن من الفهم ومن الكشف عن خبايا ذلك النص.
1https://youtu.be/JY5MoQfpQFA?si=lT77UvHlxDbUm2el
آ. مفهوم النقد السياقي
لاشك أن النقد هو الخط الموازي للإبداع يسيران معا ويتطوران معـا، بحسـب تطــور الزمـــــان والحياة والظروف، فكل تحول حضاري تشهده الأمم لابد أن يتبعه تحول وتجديد في الأدب وفي النقد أيضا، إذ يتوجب على النقد إيجاد طرائق وأساليب ومناهج وآليات أكثر حداثة تواكب العملية الإبداعية وتقومها.
على هذا الأساس جاءت مناهج النقد السياقي في فترة العصر الحديث لتقوم بدراسة الأعمال الإبداعية بطريقة ممنهجة تمكن من الفهم والإحاطة بتلك النصوص والكشف عنها من خلال تتبع العوامل والسياقات الخارجية لها وتشمل المنهج التاريخي، النفسي، الاجتماعي والتكاملي أما إذا كانت مناهج الدراسة معنية بالنص وتركيبه وأسراره وما إلى ذلك، نستطيع تقديم نوعين من المناهج بحسب صدورها زمنيا فالتأثري والجمالي والتحليلي هي مناهج ما قبل البنيوية أما البنيوية والأسلوبية والشعرية فهي مناهج بنيوية معاصرة، أو بعبارة أصح هي مناهج ألسنية ثم تأتي مناهج ما بعد البنيوية التي هي السيميائية والقراءة والتلقي والتأويلية والتفكيكية.(2)[. 2]
إذن يقصد بالنقد السياقي الذي يقابله مصطلح critique contextuelle بالفرنسية، ذلك النقد الذي يولي اهتمامه بالسياق الخارجي الذي ظهر فيه العمل الفني وبالظروف التي أثرت فيه وساهمت في نشأته، فهو بشكل عام جميع العلاقات المتبادلة بين العمل والأشياء الأخرى، والسياق هو الذي يكشف عن الرؤية من خلال منهج معين، فالناقد يستطيع من خلال تنبيه منهجا اجتماعيا أو نفسيا أو تاريخيا أن يتتبع درجات تشكل الفكرة من خلال السياق، فنمو الفكرة رهن بما يضفيه السياق إليها، بحيث يصبح هذا السياق نشاطا من نشاطات الفكرة أو إفرازا لها(3)[. 3] . بحسب جيروم ستولنيتز ويمكن الإطلاع على كتابه النقد الفني" دراسة جمالية " للإثراء أكثر فيما يخص المحاضرة مع رابط تحميله من الانترنيت. اضغط هنا1
سنتطرق الآن إلى أول منهج يندرج ضمن مناهج النقد السياقية وهو المنهج التاريخي.
فماذا يقصد بالمنهج التاريخي؟ وما هي خصائصه و ظروف نشأته؟
من هم رواده؟
ما هي الانتقادات التي وجهت له؟
كل هذا سنتعرف عليه في المحاضرة التالية.
1noor-book.com/frat5k
قبل الاجابة عن كل هذه الأسئلة لابد أولا أن نتطرق إلى الأسس الفلسفية التي انبنت عليها المناهج السياقية.
الأسس الفلسفية للمناهج السياقية:
تُعد المناهج السياقية من أبرز الاتجاهات في النقد الأدبي الحديث، حيث تركز على العلاقة بين النص الأدبي وسياقه الثقافي، الاجتماعي، والتاريخي. وتعتمد هذه المناهج على مجموعة من الأسس الفلسفية التي تحدد طرق تحليل النصوص وفقًا للظروف المحيطة بها، بدلاً من التركيز فقط على بنيتها الداخلية. في هذا الإطار، تتداخل عدة تيارات فلسفية مثل الماركسية، التاريخانية الجديدة، والبنيوية التكوينية، لتشكيل الأساس النظري لهذه المناهج.1. الأساس التاريخي والمادي (الماركسية والنقد الأيديولوجي):يُعَدّ المنهج الماركسي من أوائل المناهج السياقية، حيث ينظر إلى الأدب بوصفه انعكاسًا للصراع الطبقي والبنية الاقتصادية في المجتمع. ويرى ماركس وإنجلز أن الوعي البشري مشروط بالبنية التحتية الاقتصادية، وبالتالي فإن النصوص الأدبية ليست كيانات مستقلة، بل تعبيرات عن الأيديولوجيا السائدة.في هذا السياق، يرى جورج لوكاتش أن الرواية تعكس بنية الوعي الطبقي في فترات التحول التاريخي.كما يذهب تيري إيجلتون إلى أن النقد الأدبي يجب أن يكون تحليلًا للأيديولوجيا الكامنة في النصوص.2. الأساس الثقافي والتاريخاني (التاريخانية الجديدة):تأسست التاريخانية الجديدة في ثمانينيات القرن العشرين، ويعد ستيفن غرينبلات أحد أبرز منظّريها. يؤكد هذا الاتجاه على أن النصوص الأدبية لا يمكن فهمها بمعزل عن السلطة، الخطابات الثقافية، والسياقات الاجتماعية التي أنتجتها.يركز هذا المنهج على التفاعل بين النصوص والسياقات التاريخية، حيث يرى أن الأدب ليس مجرد انعكاس للواقع، بل يشارك في تشكيله.ومن هنا، يعتبر النقد التاريخاني الجديد النصوص بمثابة "أحداث ثقافية" مترابطة مع السلطة والمعرفة، مما يجعل التحليل النقدي عملية تتبع لهذه الروابط.3. الأساس السوسيولوجي (البنيوية التكوينية لباشلار وغولدمان):تسعى البنيوية التكوينية، التي طورها لوسيان غولدمان، إلى الربط بين البنية النصية والبنية الاجتماعية، مع التركيز على مفهوم "الرؤية للعالم" التي تعبر عنها الأعمال الأدبية.يرى غولدمان أن الأدب ليس مجرد إنتاج فردي، بل هو انعكاس لبنية فكرية وجماعية تتشكل ضمن "الوعي الممكن" للفئات الاجتماعية المختلفة.يشترك هذا الاتجاه مع المناهج الماركسية في تحليل العلاقة بين النصوص والبُنى الاقتصادية والاجتماعية، لكنه يركز أكثر على الأشكال الأدبية والتطور الفكري للمجتمعات.4. الأساس التفكيكي وما بعد الحداثيمع ظهور ما بعد الحداثة، تطورت مناهج سياقية جديدة تعيد النظر في استقرار المعاني والحدود الصارمة بين النصوص وسياقاتها. يعتبر جاك دريدا من أبرز الفلاسفة الذين أثّروا في هذا الاتجاه، من خلال تفكيكه للأنظمة الخطابية وتحليله لعدم استقرار المعنى داخل النصوص.يرى دريدا أن السياق ليس ثابتًا، بل متغير ومتعدد، مما يجعل تحليل النصوص الأدبية عملية لا نهائية.بالإضافة إلى ذلك، قدم ميشيل فوكو تحليلات حول العلاقة بين الخطاب والسلطة، حيث يرى أن الأدب ليس محايدًا، بل هو جزء من شبكة معقدة من القوى الاجتماعية والسياسية.الخاتمةتستند المناهج السياقية إلى رؤية فلسفية تربط النصوص الأدبية بسياقاتها المتعددة، من خلال منظورات مادية، تاريخية، ثقافية، وسوسيولوجية. ومن خلال هذه الأسس الفلسفية، يسهم النقد السياقي في تقديم قراءات أعمق للأدب، تكشف عن تفاعله مع السلطة، الأيديولوجيا، والتغيرات الاجتماعية، مما يجعل الأدب مجالًا ديناميًا لفهم البنى الثقافية والفكرية في مختلف العصور.