محاضرات مقياس تاريخ الجزائر الثقافي

                                

*   *    *

ملخص المقياس:

يتناول المقياس جوانب من تاريخ الجزائر الثقافي خلال الفترة العثمانية والاستعمار الفرنسي، من خلال التطرق إلى التعليم ومستوياته والمؤسسة التي كانت تقف وراءه كمصدر لتموينه، بالإضافة إلى صور وملامح عن الحياة الأدبية والفكرية والعلمية والفنية ، وكذلك عن ظاهرة انتشار الطرق الصوفية، هذا في الفترة العثمانية، أما الفترة الاستعمارية الفرنسية نتناول السياسة الاستعمارية في محاصرة التعليم العربي واحلال محله التعليم الفرنسي، وكذلك نتناول الجمعيات والنوادي التي بدأت تظهر خلال مطلع القرن العشرين وأيضا ظهور الصحافة الجزائرية. وهذا بغرض تعريف الطالب بمعارف جديد ومحاولة اعطاءه صورة عن الواقع الثقافي خلال الفترة المدروسة.

مفاهيم عامة لمقياس تاريخ الجزائر الثقافي

أ ـ التاريخ:

عرف "ابن خلدون" معناه العام الذي كانت تداوله الأمم والأجيال وأدراكهم له كفن من الفنون الشعبية، واستقبالهم له كرواية شعبية، ويزيد فيها الرواة حتى تتراكم الأخبار وتضرب فيها الأمثال ويحكونه في أنديتهم واحتفالاتهم، حيث بهذا المفهوم يقول: ((فإنّ فن التاريخ من الفنون التي يتداولها الأمم والأجيال، وتشّد إليه الركائب والرّحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتساوى في فهمه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد عن أخبار الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمى فيها الأقوال، وتضرب فيبها الأمثال ..)). أما عن تعريفه فهو حسبه: ((علم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل الحكمة عريق)). فالتاريخ هو وصف الحوادث أو الحقائق الماضية وكتاباتها بروح الباحث الناقد عن الحقيقة الكامنة، وهو واسع ما تساع الحياة نفسها، ويضم الميدان الكلي الشامل للماضي البشري، والحقائق والبيانات التاريخية، وهي جزء لا يتجزأ من عملية النمو الاجتماعية الشاملة التي كانت تحيط بها.

ب ـ الثقافة:

الثقافة في لغة العرب تعود إلى كلمة (الثّقاف)، وهي الأداة التي كان صانعو الأقواس والرماح يسمونها بها، ويقال: أن الرمح أصبح مثقفا، وثقف الشيء أي أقام العوج منه سواء هذا من الناحية الحسّية، أما من الناحية المعنوية ويعنى هذا اكتساب الحذف والفطنة والنشاط.

أما عند الغرب فيدور معنى الثقافة في أصلها اللاتيني على فلاحة الأرض وتنمية العقل والذوق والأدب بالمعنى المعنوي.

أما التعريف العلمي فهي كما عرفها العالم الإنجليزي "دوارد بيرنت تايلور" (Edward Burnett Tylor) عام 1871، وهو التعريف الشهير الذي يقول فيه: ((هي ذلك الكل المركب الذي يتضمن المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والأعراف، وكل المقومات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع)).

فهي جملة العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب العلم بها والحذق فيها، وهي أيضا لها علاقة مع المعارف الأخرى، فعلاقتها وطيدة بالعلم وبينها وبين الحضارة، فبالنسبة للعلم هو جملة المعارف التي يحصل عليها المتعلم، والثقافة كذلك. أما من جهة التمايز فالثقافة تتميز بالتنوع والشمول، فمن أخذ شيئا من كل شيء أصبح مثقفا، وأما العلم فيتميز بالتّخصص، فمن أخذ كلّ شيء تقريبا من شيء واحد فقد أصبح عالما.

والثقافة طابعها شخصي تختلف من أمة لأخرى، فثقافة الوثني والنصراني والهندوسي.. الخ تختلف عن بعضها البعض لأن كل ثقافة تستمد عاصرها من تصورها الديني في المقام الأول، أما العلم فطابعه موضوعي تتحدُّ فيه النتائج، وميدان الثقافة أوسع من ميدان العلم، وإن كان العلم يخدم الثقافة ويرشدها، فهي لا تستغني عن العلم.

أما علاقة الثقافة بالحضارة، فإن الأخيرة تتناول جملة من مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي التي تنتقل من جيل إلى آخر في جوانب الحياة المادية، أما الثقافة فهي جملة العلوم والمعارف التي يطلب الحذف فيها، فالثقافة تهتم بالجوانب المعنوية والحضارة ألصقت بالماديات، وهذا الفرق في الجانب النظري فقط. أما في الجانب العملي فهما يرتبطان مع بعضهما ارتباطا وثيقا، لأن ثقافة كل أمة هي أساس حضارتها وفكرها وأسلوب حياتها، فالثقافة والحضارة متفقتان من هذه الناحية، فالثقافة هي المظهر العقلي للحضارة، والحضارة هي المظهر المادي للثقافة.

ج ـ الجزائر:

الجزائر اسم لمدينة عظيمة على البحر الرومي؛ تعرف قبل الفتح الإسلامي باسم "أقسيوم" (Icosium)، ولم تكن تطلق على وطن مترامي الأطراف إلا منذ العهد العثماني حيث اتخذ العثمانيون المدينة عاصمة لمملكة ذات حدود معينة، فاشتق اسم الوطن من هذه عاصمة دولته الجزائر. التي كانت تمثل جزء من وطن كبير عرف من قبل قدوم الفينيقيين باسم ليبية، وحسب الرّحالة "البكري" تشمل (طرابلس وتونس والجزائر ومراكش) ثم انسلخت الجزائر وما والاها غربا من هذا الاسم، فكان الجغرافيون اليونانيون واللاتينيون يقسمون هذا الوطن الذي عرف أخيرا باسم الجزائر إلى ثلاثة أقسام هي:

1 ـ مصيصليا (Massessylie) وهو عبارة سهول سطيف وبرج بوعريريج وتشمل الجزائر وغربها حتى وادي ملوية.

2 ـ مصيليا (Maessillie) وهو باقي شرق الجزائر إلى غرب تونس إلى طبرقة، ثم صارت مصيصليا تعرف بموريطانيا الشرقية ومصيليا بنوميديا.

3 ـ جيتولية (Getulie) وهو عبارة عن صحراء موريطانيا ونوميديا، ولما جاء الفاتحون المسلمون أطلقوا على اسم المغرب على ما بين برقة شرقا والمحيط الأطلسي غربا، والبحر الرومي شمالا الصحراء الكبرى جنوبا. وقد سموه المغرب لوقوعه غرب وطنهم جزيرة العرب ثم قسم العرب المغرب إلى أدنى وأوسط وأقصى؛ وذلك بالنسبة لشرقهم.

ـ المغرب الأدنى هو ما بين برقة شرقا وبجاية غربا.

ـ المغرب الأوسط هو ما بين بجاية شرقا ووادي ملوية غربا.

ـ المغرب الأقصى هو ما بين ملوية شرقا والمحيط الأطلسي غربا.

عرفت الجزائر عبر تاريخها دول متعاقبة على أرضها منذ القدم بما تحمله تلك الدول من مؤسسات دستورية وعلاقات خارجية ودبلوماسية، ومما تميزت به أنها كانت تصهر الوافدين إليها وتقودهم إلى الانخراط في نسيجها الاجتماعي، إذ سرعان ما يختلطون بأهلها الأصليين ويتزاوجون منهم، ويصبحون جزءا من هذه البلاد، وخاصة بعد الفتح الإسلامي.

يجمع المؤرخون أن البربر أو الأمازيغ هم أصل سكان الجزائر خصوصا، وبلاد المغرب عموما، وقد حافظوا على شخصيتهم عبر القرون مع الفينيقيين والقرطاجيين (814 ـ 146 ق.م) والرومان (146 ق.م ـ 429 م) والوندال (429 ـ 534 م) والبيزنطيين (534 ـ 647 م) إلى أن وحدّ البلاد تحت راية الإسلام في دائرة العروبة في القرن السابع الميلادي.

وفي هذا الشأن؛ لم يكن الأمازيغ الأحرار بعُدَاءُ عن العرب والعروبة فإن "ابن خلدون" مؤرخ البربر الأكبر وعمدة تاريخ بلاد البلاد القديم والمعتز بأصله البربري ـ مما يبدو من تاريخيه ـ يؤكد أن الأمازيغ أو البربر من أبناء مازيغ بن كنعان بن حام، وأن أصلهم من جهات ما بين النهرين بآسيا، ثم ارتحلوا إلى بلاد المغرب.

ومهما كان الحديث عن عروبة الأمازيغ، فالحاصل أن البربر والعرب كلهم انصهروا في بوتقة الإسلام، وهو ما عبر عنه الشيخ "عبد الحميد بن باديس" الذي تعود أصوله إلى قبيلة صنهاجة البربرية: ((إن أبناء يعرب وأبناء أمازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة قرنا، تمّ دأبت تلك القرون تمزج بينهم  في الشّدة والرّخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السّراء والضّراء، حتى كونت منهم، في أحقاب بعيدة، عنصرا مسلما جزائريا أمه الجزائر وأبوه الإسلام، وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعادة كلمة الله، وما أسالوا من محابر في مجالس الدرس لخدمة العلم، فأي قوة بعد هذا، يقول عاقل، تستطيع أن تفرقهم؟)).

وفي ظل الفتح الإسلامي لبلاد المغرب من القرن السابع وحتى القرن السادس عشر الميلاديين، عرفت الجزائر دولا محلية متداخلة ومزاحمة لدولة الخلافة المشرقية، مما يرسخ تقاليد فكرة الدولة بالمنطقة، ومما بعد رصيدا تاريخيا للقائلين بعراقة الدولة الجزائرية وأصالتها على الرغم من تداخل حدود الجزائر مع غيرها من بلاد المغرب بشكل عام حيث نشأت عدة دول هي: (الرستمية، الإدريسية، الأغلبية، الفاطمية، الزيرية، المرابطية، الموحدية الحفصية، الزيانية) من 144هـ (909م) إلى 936 هـ (1554م).

وإن كانت هذه الكيانات السياسية خطوات عريقة في طريق تشكل أركان الدولة الجزائرية من حيث شعبها الذي صاغته الظروف البيئية والاجتماعية والسياسية، ومزجته القرون ووحدته الأقدار، وربطت بينه وبين أرضه التي استظل بظلالها، وارتوى من مياهها، وتغذى على ما يخرج من بواطنها؛ فإن بقية أركان الدولة ما فتئت تتكامل لتأخذ معالمها الثابتة في العصر الحديث منذ القرن السادس عشر الميلادي، من خلال اتفاق بعض زعمائها مع الأخويين "عروج" و"خير الدين بربروس"، على الاتحاد من أجل التصدي للخطرين الإسباني والإيطالي، بعد احتلالهما لموانئ جزائرية وفرض الجزية على سكان المدن الساحلية، مما دفع بالبلاد إلى الالتجاء إلى دولة الخلافة ـ آنذاك ـ وبفضل دعمها تحول خير الدين من مجرد أمير للبحر، إلى رئيس دولة مرتبطة بالخلافة العثمانية، ومتحالفة معها ضد إسبانيا التي كانت تقود التحالف المسيحي.

بفصل جهود "خير الدين بربروس"، بدأت معالم  ومقومات الأمة الجزائرية، وكيان دولتها المتميزة تتحدّد باختيار عاصمة قارة (هي إلى الآن مدينة الجزائر) ورسم حدود معينة، ووضع قوانين إدارية وإقامة أنظمة اقتصادية واجتماعية، وعلاقات سياسية خارجية، ضمن نطاق الوحدة الطبيعية التي تربطها بالبلاد العربية والدولة العثمانية.

واستمرت تلك المعالم في عملية الترسيخ والتأكيد طيلة هذه المرحلة (1518 ـ 1830م) حيث دخلت الجزائر في فكرة ـ الحدود الجغرافية والسيادة الترابية ـ وحتى الاعتراف الدولي، تلك الجزائر التي امتدت من أدار إلى القالة، ومن مدينة الجزائر إلى بسكرة و ورقلة.

تمثل تلك القرون الثلاثة واحدة من أمجد عصورنا من حيث التعمير والإنشاء، وتنظيم المدن وتخطيط شوارعها من حيث الحفاظ على الأمن والاستقرار وتوطيدهما، والعناية الفائقة بالعلم والعلماء، لكن الكتابات الاستعمارية تغفل عن النظام الهيكلي للدولة عند المسلمين ـ في ذلك الوقت ـ وتتجاهل الإنجازات العظيمة في تلك الفترة، يكفي للاستدلال عليها، أن الجزائر أبرمت مع فرنسا 70 معاهدة فيما بين 1535 و1830م في إطار إنجازات عسكرية بحرية وإسعافات مالية ومساعدات غذائية لصالح فرنسا، كما نجد دليلا على عظمة الجزائر في ذات الرسائل التي كانت تُوجّهُ إلى حكامها من ملوك فرنسا وأباطرتها، حيث نقرأ في مستهل أغلبها عبارة: ((إلى السيد الأمجد الأعظم الأفخم))، بل كان للدّاي شخصية دولية إذ كانت الدول تعقد معه المعاهدات باسم الدولة الجزائرية، التي كانت بمثابة جمهورية عسكرية تربطها بتركيا علاقات دينية واتفاقات شكلية، وكان حكام البلاد يتعاملون مع قادة الدول بصفة مباشرة، ويبرمون الاتفاقيات التجارية، ويتقاضون مع جميع الدول انطلاقا من مبدأ الدفاع عن مصالح الجزائر.

جوانب من الحياة الثقافية في الجزائر خلال العهد العثماني

أولا ـ التعليم ومستوياته:

أ ـ مؤسسة الأوقاف مصدر التعليم:

تشهد كتب الرّحالة الأجانب الذين زاروا الجزائر خلال العهد العثماني أن التعليم كان منتشرا وأن كل جزائري تقريبا كان يعرف القراءة والكتابة، وقد كان التعليم حرا من سيطرة الدولة ومن سيطرة الحكام العثمانيين، فكان سكان كل قرية ينظمون بطرقهم ووسائلهم الخاصة تعليم القرآن والحديث والعلوم العربية والإسلامية، لأن دراسة هذه العلوم هي السبيل إلى معرفة وفهم أسرار هذا الدين والقرآن والسنة، ولذلك كان القرآن أساسا للتعليم في الجزائر سواء كان تعليما ابتدائيا أو ثانويا أو عاليا، وكانت المدارس على مختلف مستوياتها تمول وتغذى بالأوقاف التي يحبسها أهل الصلاح والخير من الرجال والنساء، وفي بعض الأحيان كان يحبسها موظفون سامون في الدولة كعمل من أعمال الخير، فكان هناك أملاك خاصة وعقارات وأراض يذهب ريعها لبناء المدارس وتوظيف للمعلمين وتوفير المساكن للطلبة، فالأوقاف كانت الأساس في تدعيم التعليم وحماية الطلبة والمعلمين.

ولم تكن كل الأوقاف مخصصة للتعليم فقد كانت هناك أوقاف لعدة مصالح أخرى مثل: العناية بالحج، وتسمى أملاك مكة والمدينة، وهناك لإقامة العيون وحماية الثكنات، وهناك أخرى لبناء واستصلاح المساجد والزوايا كأوقاف (سبيل الخيرات) وهي عبارة عن جمعية كانت تشرف على ثمانية مساجد في العاصمة، وكانت هناك أوقاف خاصة بالجامع الكبير بالعاصمة أيضا، بالإضافة إلى أوقاف أخرى كانت منتشرة في مختلف مدن الجزائر.

ولكن هذه الأوقاف لم تكن دائما لأغراض خيرية، ففي أحيان كثيرة كان الناس يوقفون لحماية أملاكهم من الضياع أو لحمايتها من يد السلطة، ومن حقهم أن ينصوا على أن يستفيد منها الأحفاد والفقراء، وكانت النساء تستفيد من هذه الأوقاف، ولاسيما عند الولادة أو اليتم أو الفقر، وكثيرا ما كانت الأسر تلجأ إلى طريقة الوقف لعدم ثقتها في صلاح الورثة، ولكن كل هذه الأغراض كانت ثانوية إلى جانب الغرض الرئيسي من الأوقاف وهو خدمة العلم ومساعدة الفقراء والمساكين.

وقد كان هناك قيم أو وكيل على مؤسسة خيرية، وكانت مهمته العناية بالأوقاف ومراقبة الدخل، وكانت الأوقاف لا تباع إلا في الأحوال النادرة وعندما يخشى عنا التلف، فإذا كانت عامة فإن الدولة تعيين عليها موظفا رسميا، أما إذا كانت خاصة فإن هناك مجلسا يقوم بتعيين رجل صالح يراقبه المجلس، وهناك أخطاء قد ارتكبت ولا سيما في الأحوال العامة حيث الرقابة ضعيفة إلا من الضمير.

ب ـ مستويات التعليم:

بخصوص التعليم الذي كانت ترعاه هذه الأوقاف فقد كانت على ثلاثة مستويات: الابتدائي والثانوي والعالي.

1 ـ التعليم الابتدائي:

بالنسبة للتعليم الابتدائي كان كل طفل بين السادسة والعاشرة يذهب إلى المدرسة، والملاحظ أن هذا بخصوص الأطفال الذكور، أما الإناث فلا يذهبن إلى المدارس إلا نادرا، ولكن أصحاب البيوتات الكبيرة كانوا يجلبون أستاذا معروفا بصلاحه وعلمه لتعليم البنات، وفي كل قرية صغيرة أو (دوار) كانت هناك خيمة تدعى (الشريعة) خاصة بتعليم الأطفال ويشرف عليها مؤدب يختاره سكان القرية لهذا الغرض، أما في المدن والقرى الكبيرة فقد كانت هناك تدعى (مسيد) أو مكتب، وكانت غالبا ملحقة بالوقف، وإلى جانب ذلك كل جامع تقريبا يضم مدرسة للتعليم أيضا.

كان لكل مؤدب أجرة خاصة ولكنها كانت غير قارة، فهي تختلف حسب حالة أولياء التلاميذ المادية، كانت كل أسرة تدفع على قدر حالها، وفي الأعياد وعندما يحفظ الطفل القرآن يأخذ المؤدب أجرا إضافيا، وكثيرا ما يجمع المؤدب إلى وظيفته تحفيظ القرآن وظيفة أخرى كالإمامة والأذان.

وكان المؤدب محل احترام سواء كان في القرية أو المدينة ويعيش بالمقارنة عيشة طيبة، وتذكر بعض المصادر أن أحد المؤدبين في قسنطينة كان يتقاضى حوالي ثلاثين فرنكا سنويا على الطفل الواحد من الهدايا والتعويض عند حفظ القرآن والأجرة المعينة، وكان لدى المؤدب حوالي 25 طفلا، فكان يناله حوالي فرنكين في اليوم بالإضافة إلى دخله من بعض الوظائف الأخرى، ولم يكن هناك رقابة رسمية على المؤدب المهم أن  يكون يعرف جيدا القراءة والكتابة، أما أهل البادية فكانوا يرسلون أطفالهم للتعليم في المدن حيث يقيمون عادة مع عائلات صديقة أو يصرف عليهم مجانا من الأوقاف.

وتذكر المصادر أنه كان في كل قرية مدرستان، وكانت المدن تختلف في عدد المدارس فقسنطينة في عهد "الحاج أحمد باي" كانت تضم 86 ابتدائية، وكان يتوزع عليها حوالي 1350 تلميذا، وكان في تلمسان في نفس الفترة حوالي 50 مدرسة ابتدائية.

ومدة التعليم الابتدائي حوالي أربع سنوات يتعلم الطفل خلالها مبادئ القراءة والكتابة ويحفظ القرآن وأركان الإسلام وشعائر الدين، وإذا كان الفقراء يكتفون بهذا القدر من التعليم فإن الأغنياء يواصلون تعلمهم، وبذلك يدخلون المرحلة الثانوية.

2 ـ التعليم الثانوي:

كان التلميذ يستطيع أن يواصل تعليمه الثانوي في الجامع أو في مدرسة ملحقة بالأوقاف، وكان التعليم الثانوي مجانا، وكان الباي هو الذي يسمى المدرس باقتراح من الناظر، ويتلقى المدرس أجرته من الأوقاف وهي تبلغ مائة إلى مائتين من الفرنكات سنويا، وكان يسكن مجانا، وغالبا ما يجمع إلى وظيفته كمدرس وظائف أخرى كالقضاء أو الإفتاء، وكان يسود اعتقادا أن المدرس يقضي وقته يعد الدروس، ولذلك يأتيه الناس بالضروريات كالماء والزيت للمصباح، كما كانوا يأتونه يوميا بحلويات رمضان وملابس العيد، والطعام، ومن جهة أخرى التلاميذ أيضا يحصلون من الأهالي على الحلوى والزيت للمصباح وعلى السكن مجانا والماء.

كان في العاصمة وقسنطينة وتلمسان جوامع ومدارس وزوايا لإيواء التلاميذ، ففي قسنطينة حيث كان 35 جامعا و7 مدارس، كان 150 تلميذا من 700 يحصلون على أجرة سنوية من دخل الأوقاف تبلغ 36 فرنكا، وكان معظم هؤلاء التلاميذ من سكان الأقاليم وقد أعدت لهم زوايا خاصة لسكناهم بلغت 16 زاوية.

وكان في العاصمة 6 زوايا لهذا الغرض: ثلاث لعرب الغرب واثنتان لعرب الشرق، أما الأخيرة فقد أعدت لإيواء المدرسين في العاصمة واللذين ليس لهم عائلات مقيمة.

أما تلمسان فقد كان فيها عدد كبير من هذه الزوايا، كما كان فيها مدرستان إحداهما مدرسة الجامع الكبير والأخرى مدرسة أولاد الإمام، وفي ضواحي تلمسان كانت أيضا مدرسة عين الحوت.

والزوايا لم تكن مقصورة على المدن، بل كانت هناك زوايا في الأرياف تقام تخليدا لأحد المرابطين ويقام بجانبها مكان للصلاة وبئر للشرب والوضوء، وتخصص الأرض لهذه الزوايا الريفية فيحرثها الأهالي ويستعمل دخلها لمساعدة المدرسين والطلبة، ويخصص أهل الخير جزءا من محصولهم السنوي للزاوية التي توجد في منطقتهم، وكانت الزوايا منتشرة ولاسيما في الغرب الجزائري، وكان في منطقة تلمسان وحدها أكثر من 30 زاوية، وهناك أخريات منتشرات في جهات الونشريس ومعسكر وسيدي بلعباس ومستغانم. أما متيجة ومنطقة جرجرة فقد كانت تضم أكثر من ثماني زوايا أشهرها زاوية البركاني قرب شرشال، وزاوية ابن علي الشريف في أقبو، وزاوية النميلي في بني موسى، ..الخ.

وكان يتلقى العلم في المرحلة الثانوية حوالي 3000 تلميذ في كل إقليم من الأقاليم الثلاثة، وكانت الدروس تشمل على النحو والتفسير والقرآن، وينال الطالب في النهاية (إجازة) تشهد له بأنه قدر درس جميع العلوم التي تدخل في نطاق تخصصه: والإجازة ليست شهادة مكتوبة ولكنها تعبير شفوي من المدرس إلى التلميذ، ومتى حصل التلميذ على الإجازة يصبح (طالبا) يستطيع قراءة القرآن في الجامع ويتولى وظيفة مؤدب أو كاتب.

3 ـ التعليم العالي:

ليس هناك فصل واضح بين التعليم الثانوي والعالي، والأستاذ الذي يدرس في العالي يسمى (عالما)، أما عدد الطلبة فقد كانوا بين 600 إلى 800 في كل إقليم يواصلون تعليمهم العالي، وكان الأساتذة في هذا المستوى يتقاضون أجورهم من الأوقاف أيضا، وكانت الدروس العالية تعطى في الزوايا وأهم الجوامع، ففي إقليم وهران كان الجامع الكبير في تلمسان وجامع سيدي العربي والزاوية القادرية (التابعة لأسرة الأمير عبد القادر)، وفي إقليم الجزائر كانت زاوية ابن المبارك بالقليعة، وزاوية مليانة، وزاوية بني سليمان، وزاوية ابن محي الدين، أما في إقليم قسنطينة فهناك الجامع الأخضر وجامع سيدي عقبة، وزاوية ابن علي الشريف في جرجرة.

وأهم مواد التعليم العالي هي النحو والفقه الذي يشمل العبادات والمعاملات والتفسير والحديث والحساب والفلك، بالإضافة إلى التاريخ والطب. لكن كان يغلب على الدراسة طابع العصور الوسطى وقلة التجديد والحفظ، وهناك عدد من الجزائريين درسوا وتخرجوا بهذه الطريقة في العهد العثماني، ولكنهم اختفوا في بداية الاحتلال الفرنسي. وقد كان "حمدان خوجة" ووالده من الذين درسوا على هذه الطريقة، ولكن الجزائريين المنتجين كانوا قلة، وكانت الدراسة في شكلها الذي تمّ وصفه تساعد على إخراج الموظفين في المجال الديني والكتابة ولكنها لا تساعد على إخراج المنتجين في ميدان الفكر والأدب.

الحياة الأدبية والفكرية والعلمية والفنية في العهد العثماني

أ ـ الأدب والفكر:

إذا عدنا إلى الحياة الأدبية فإننا نجد بعض المحاولات الطيبة ولكنها لا تدل على نهضة ثقافية، فقد شهد القرن الثامن عشر عملين من كتابة الرّحلات: أحدهما للمفتي المالكي "أحمد بن عمار" الذي سجل ملاحظاته أثناء رحلته إلى مكة، وثانيهما "حسين الورتيلاني" الذي كتب أيضا في رحلته إلى المشرق.

وشهد علوم الفقه وأصول الدين تقدما على يد "عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني" والشيخ "عبد العزيز الثميني الميزابي"، أما في الأدب فإننا نجد الشيخ "محمد بوراس الناصري" يخلد شعرا ونثرا انتصار "محمد الكبير" باي وهران على الإسبان سنة 1791، ويسجل فرحة المسلمين بعودة وهران إلى الحكم الإسلامي.

ونتيجة لضعف العربية الفصحى انتشر بين الناس انتشر الأدب الشعبي، الذي أصبح ميدانا للتعبير عن خلجات الشعب في السّراء والضراء، وقد لمعت أسماء أمثال: "ابن مسايب التلمساني" و"سيدي ابن علي" في هذا الميدان، وكلاهما في القرن الثامن عشر. أما في القرن التاسع عشر فنجد شعراء سجلوا بعض خواطرهم في الأحداث الهامة كما فعل الشيخ "عبد القادر الجزائري" في قصيدته عن احتلال الجزائر، والشيخ "قدور ولد محمد" الذي كان يهاجم "الأمير عبد القادر" بينما كان الشيخ "الطاهر بن حواء" ممدحهُ.

وقد وجد الروائيون في أبطال الإسلام والجاهلية كـ "عنترة بن شداد"، وشخصيات يقولون على لسانها أشياء كثيرة كما وجدوا في شخصية "جحا" وسيلة للتعبير عما لا يمكن أن يعبروا عنه واقعيا. أما في ميدان الشعر الفصيح فهناك "الأمير عبد القادر" الذي سجل معاركه وانتصاراته بشعره، وله ديوان مطبوع في هذا الموضوع، وقد كان "حمدان خوجة" يقرض الشعر أيضا، ولكن شعره الذي وصل إلينا ضعيف ومتصنع.

أما الأعمال التاريخية فلم نجد أشياء هامة، ولكن يمكن أن نذكر بعض الأمثلة، من ذلك الرسالة التي كتبها "عبد القادر المشرقي" بعنوان ((بهجة النّاظر في أخبار الداخلين تحت ولاية الإسبانيين بوهران من الأعراب كبني عامر)) والعنوان يدل على المحتوى، والرسالة في حوالي 24 صفحة.

وقد كتب "حمدان خوجة" كتابه ((المرآة)) نشر الجزء الأول ووعد بنشر الجزء الثاني ولكنه لم يظهر، ورغم أن الكتاب مترجم عن العربية فإنه إلى الآن لم يعثر الباحثون على الأصل العربي، والغالب أنه ضاع، و((المرآة)) عمل تاريخي هام يعتبر من أهم الوثائق المعاصرة للاحتلال الفرنسي، وقد كتب من وجهة نظر جزائرية، فهو مصدر من المصادر الضرورية لفهم ردود الفعل التي أحدثها الاحتلال الفرنسي في سنواته الأولى. كما له تأليف أخر بالعربية الذي يحمل عنوان ((إتحاف المنصفين والأدباء)) و"خوجة" في هذا الكتاب يظهر أنه عصري الروح طليق العبارة واسع الاطلاع على أحوال بلاده وعصره. وفي هذا المجال التاريخ كتب أيضا "أحمد بن المبارك" ((تاريخ قسنطينة))، كما كتب "محمد الصالح العنتري" (تاريخ بايات قسنطينة)).

ب ـ العلوم:

أما العلوم فقد كانت ضعيفة، وكان باشوات الجزائر يوظفون الأجانب للعناية ببعص الأشياء الدقيقة أو الفنية، ومن ذلك توظيف أحد الفرنسيين للعناية بالساعات الكبيرة التي كانت الدول الأوروبية تهديها إلى الباشا، وتوظيف أجانب آخرين للعناية بالمدفعية، وبناء السفن، ونحو ذلك. وبدل الاهتمام بتكوين الجزائريين من الوجهة الفنية اعتمد الباشوات والمسؤولون العثمانيين على بعض الأرقاء المسيحين الذين كانوا يلبون حاجات الباشا. ومع ذلك فإن الجزائيين قاموا بمساعدة بعض الأجانب ببناء قنطرة وادي الشلف سنة 1814 التي اشترك فيها حوالي 300 من الجزائريين و167 من اليونانيين، وهناك قنطرة وادي الرمل في قسنطينة التي بينت في عهد "صالح باي" التي أشرف عليها "بارثولوميو" الإسباني، وقد أظهر الجزائريون مهارة فائقة في بناء المنازل الجميلة والقصور البديعة، وشبكات المياه والفورات والعيون، وظهر في العهد العثماني تأثير العثمانيين في المساجد، كما ظهر التأثير البيزنطي.

ج ـ الطب:

 لقد أهمل الجزائريون الطب سواء القديم منه أو الأوروبي المعاصر، فلم يكن هناك مستشفيات باستثناء الزوايا التي كانت تأوي العجزة والمرضى، وكان المرجع في هذا الميدان هي كتب الأقدمين كـ "ابن سينا"، وقد كانت فوائد الأعشاب معروفة للناس، فألف الشيخ "عبد الرزاق الجزائري" كتابا في فوائد الأعشاب، ولم يكن هناك امتحان ولا مهنة للأطباء، والذين يقومون بالعلاج هم غالبا مرابطون يدوون بالجن والأرواح، وليس بالعلم، وكان بعض حملة الشهادات الذين يعالجون مرضاهم في دكاكين تشبه دكاكين أصحاب الحرف الأخرى.

 أما أعمال الجراحة فكان يقوم بها الحلاقون الذين يلجأون أيضا إلى استعمال الكي، ومنذ القرن السادس عشر كان في مدينة الجزائر مستشفى إسباني خاص بالمسحين، ولم يكن للسلطة العثمانية أي تدخل في مهنة الطب ما عدا تعيين (جراح باشي) الذي كان من الجنود الانكشارية، والذين كان يصحب الجيش في الحملات الكبيرة للعناية بالجرحى. وفي بعص الأحيان كانت السلطة تستفيد من خبرة الأطباء الأجانب الذين يؤخذون أسرى، فالألماني ّ"بفايفر" أصبح سنة 1825 الطبيب الخاص ورئيس الطباخين في القصر، وعند دخول الفرنسيين سنة 1830 كان "بفايفر" هو الطبيب الوحيد الذي كان يعالج الجرحى الأتراك والأهالي، وقد ترك مذكرات هامة تسجل دخول الفرنسيين وتصف حالة الجزائر عندئذ. ومن جهة أخرى كان لبعض القنصليات أطباء خاصون، ولعل ضعف الطب هو الذي يفسر ارتفاع نسبة موت الأطفال في الجزائر وانتشار بعض الأمراض المعدية كمرض الزهري الذي جاء به الأوروبيون خلال القرن السادس عشر.

د ـ الفـــــن:

رغم القيود الدينية في المجال الفني فإن هناك بعض الفنون قد شهدت تقدما ملحوظا، من ذلك فن العمارة في تلمسان وقسنطينة وبعض مساجد العاصمة، وهناك بعض الصور التي حملها أصحابها من الشّرق إلى الجزائر وقلدها السكان، وقد تقدم فن تزين البيوت من الداخل (الديكور) وظهر فيه الذوق المحلي، وكانت الجزائر تستورد الرخام من إيطاليا، كما كانت تستورد الفسيفساء من تونس وإسبانيا وإيطاليا أيضا، وامتاز قصر "مصطفى باشا" بأعمال الزينة المستوردة من هولندا، وقد ظهرت براعة الجزائريين في الأعمال الخشبية كالأبواب المنقوشة والشّرفات ذات الأعمدة الجذابة، وبالإضافة إلى ذلك امتازوا بأعمال الزرابي ذات الذوق الرّفيع، والفخار الملون الجميل، والطراز بالذهب والفضة.

ه ـ الموسيقى:

في ميدان الموسيقى كان الريفيون يستعملون آلات محلية كالبندير والطبلة والقصبة، وكان عرب المدن يستعملون آلات أخرى أكثر دقة كالربابة والقانون والعود والدّربوكة والجواق، وكانت الألحان إما أندلسية وإما محلية متأثرة بها. وكانت هناك فرق موسيقية متعددة تجد مجالها في المقاهي وفي المناسبات الاجتماعية والدينية: الزواج، الطهارة، المولد النبوي، ورمضان.

وكان للأتراك فرق موسيقية خاصة، كما كان للشخص الميسور فرقة خاصة بهم، وهناك  فرق موسيقية خاصة بالحملة أو الحملات العسكرية، وكان للباشا نوعان من الموسيقى: موسيقى العشية وموسيقى الصّباح، أما آلات الموسيقى التركية فقد كانت النّاي والغيطة والطّبلـ، حتى الزّنوج كانت لهم موسيقى خاصة وآلات تكاد تكون خاصة مثل الطّبلة الكبيرة والقراقب والغنبري.

و ـ الرقـــــــص:

كان الرقص أيضا شائعا ولكن لدى الممتهنين فقط سواء كانوا رجالا أو نساء، فالرجل المحترم وكذلك المرأة المحترمة لا ترقص على الأقل أمام الناس، وكان الرقص عملا فرديّا، وقد كان الرقص في المدن متأثرا بالرقص الشّرقي، أما الرّقص في الرّيف فقد كان يمتاز بطابع محلي، وفي أحيان كثيرة كانت الراقصة مغنية.

الطرق الصوفية في العهد العثماني

مثلت الطرق الصوفية ـ بصرف النظر عن توجهاتها الفكرية والسلوكية المختلفة ـ من أهم مكونات المجتمع الجزائري لفترة طويلة من الزمن، فالمؤرخون يتفقون على أنها بدأت في الانتشار في الجزائر، وكسب نفوذ اجتماعي ابتداء من القرن 16م، ثم أخذت تنمو وتتسع حتى انتشرت على نطاق واسع في النصف الثاني من القرن 18م والربع الأول من القرن 19م، فهي بالتالي تشكل جزءا مهما من تاريخ الجزائر الديني والثقافي والاجتماعي، بل والسياسي.

أ ـ تعريف الطرق الصوفية:

هناك عدة تعاريف للتصوف في الماضي والحاضر وسنتوقف عند تعريف "ابن خلدون" الذي يقول: ((وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيها مما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة))، وحسب رأي "ابن خلدون" أن ذلك كان معروفا في الصحابة والسلف، فالتصوف عنده هو: عبادة ومجاهدة للنفس ومحاولة لإدراك الحقيقة. كما قال في موضع آخر: ((ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والعرفان)) أي أن غاية التصوف هو التوحيد والمعرفة. وفي مكان آخر يذكر ابن خلدون أن أصل التصوف (ويسميه الطريقة أو طريقة القوم) هو محاسبة النفس على الأفعال والتروك، أما رجال الطرق أنفسهم فيختلفون حول تعريف التصوف حسب الوسائل التي يستعملونها للوصول إلى أهدافهم. إن البعض يراه في الممارسات والوسائل التي توصل إلى الحقيقة، وهي ممارسة التقشف والقيام بالواجبات الشرعية على أتم وجه والتحلي بالأخلاق والفضائل وتجنب كل الشبه والمزالق. بينما يراه آخرون منهم الوصول إلى الإلهام والكشف والرؤى والسرحان في عوالم الأسرار الغامضة. ولكن النتيجة واحدة تقريبًا؛ فهي التسامي والتطهر للوصول إلى الدرجة العليا في القربى إلى الله ونيل رضاه.

أما الطريقة؛ فهي طريق خاص بنوع من الناس، يتميّزون عن غيرهم برؤية معينة في المنهج اللازم اتباعه للوصول للحقيقة المطلقة عبر مراحل ومقامات محددة ، تجتهد كل طريقة في استقائها من منابع ومصادر تعتقد أنها يقينية. وانطلاقا من هذا المفهوم كانت كل طريقة صوفية تعتمد ـ للتّدليل على صحتها وشرعيّتها ـ على سلسلة من الصّالحين والأعلام تتّصل دائما بالرسول صلى الله عليه وسلم، الذي بدوره ـ حسب الطرق ـ تلقى أوراد الطريقة وأذكارها وتعاليمها عن جبريل عليه السلام عن ربّ العزة جلّ جلاله، والرسول صلى الله عليه وسلم بدوره لقنها لعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين.

ب ـ الطرق الصوفية في الجزائر:

1 ـ الطريقة القادرية:

تعد الطريقة القادرية من أقدم الطرق الصوفية التي دخلت الجزائر عن طريق بجاية، ثم انتشرت في الغرب الجزائري والجنوب الغربي من الصحراء وبافي مناطق الجزائر وغرب تونس، وفروعها كانت موجودة في مختلف المدن ولها زوايا وأضرحة ومساجد في الجزائر وتلمسان وغيرها، كما كان لها أوقاف كثيرة، كانت ترسل مع الحجاج إلى الزاوية الأم في بغداد.

وتمثل القادرية أساس ومنطلق كل الطرق الصوفية في الجزائر، فالمدينية (نسبة إلى أبي مدين شعيب بن الحسين) تفرعت عن القادرية، وتفرعت عن المدينية الطريقة الشاذلية، وعن الشاذلية تفرعت طرق كثيرة كالدرقاوية والجزولية واليوسيفية والعيساوية والشيخية والطيبية والحنصالية، وإن كانت الشاذلية قد تفرعت عن القادرية إلا أنها أخذت منحى صوفيا يختلف الصوفي القادري.ويقدر الفرنسيون عدد أتباعها في الجزائر سنة 1882م بـ (574.14 إخوانيا و 268 مقدما و 29 زاوية).

تنتسب الطريقة القادرية إلى الشيخ "عبد القادر أبو محمد محي الدين بن أبي صالح عبد الله" وقيل "ابن موسى جنكي دوست الجيلالي" نسبة إلى مدينة جيلان (وراء طبرستان)، ولد بجيلان عام 1088م وقد إلى بغداد عام (488ه) 1095م حيث درس الفقه الحنبلي، ويقال أيضا أنه لم يهتم بالصوفية حتى حضر مجلس الشيخ "أبو حمد الدباسي. في عام (521ه) 1127م أي عندما جاوز الخمسين من العمر أصبح من أشهر علماء بغداد في الفقه الحنبلي، ثم لبس لباس الصوفية وبني لنفسه مدرسة عام (528ه) 1135م، لم ينضم أي أحد إلى طريقته خلال حياته، وبعد وفاته بدأ الناس يسيرون على نهجه، وقد أخذ المريدون بنشر الطريقة فكان لها مواقع كثيرة في العالم الإسلامي ومنه شمال أفريقيا، توفي الشيخ "عبد القادر" سنة 561ه ودفن في مدرسة ببغداد. وهو يعتبر عند المتصوفين سلطان الأولياء، وقطب الأقطاب، والغوث، وعضد الإسلام، وله كرامات وخوارق تنسب إليه، وأتباعه يحلفون بجاهه. ويلقبونه أيضا بمولى بغداد، والشيخ الجيلاني عالم وله تآليف منها (لطائف الأنوار).

الزاوية الأم للطريقة توجد في بغداد، ولها فروع في الجزائر، وكل فرع مستقل عن الآخر، وأصحاب هذه الفروع يتصلون مباشرة بالأصل في بغداد، إذ أن السلسلة تَرِدَان من هناك، وعلى كل فرع من فروع الزاوية مقدم. وهناك من يذكر أن أول من أسس فرعًا للقادرية في الجزائر هو الشيخ "مصطفى بن المختار الغريسي" حوالي سنة (1200ه) 1785م بالقيطنة الواقعة على وادي الحمام قرب مدينة معسكر. والواقع أن فروع هذه الطريقة كانت موجودة من قبل في مختلف المدن، ولها زوايا وأضرحة وقباب ومساجد في الجزائر وتلمسان وقسنطينةـ وبجاية وغيرها. ولها أوقاف كثيرة، كانت ترسل مع الحجاج إلى الزاوية الأم ببغداد، وقد بقي الحال كذلك في العهد الفرنسي أيضا. ومن أشهر الذين تولوا مشيخة الزاوية بعده ابنه "محي الدين" والد الأمير "عبد القادر الجزائري بطل المقاومة الجزائرية في القرن 19م.

2 ـ الطريقة الرحمانية:

تعتبر الطريقة الرحمانية أوسع الطرق انتشارا في عموم الجزائر إبان القرن 19م حيث كانت تستحوذ وحدها على أكثر من 50 بالمائة من عدد الزوايا حسب إحصائية عام 1892م للمستشرف الفرنسي "لويس رين" بلغ عدد زوايا الطريقة الرحمانية 188 زاوية، وأتباعها 156214 إخوانيا. وتنتشر هذه الزوايا خصوصا في الشرق والوسط والجنوب حتى في تونس، ومن هذه الزوايا (زاوية صدوق، برج عزوز، طولقة، أولاد جلال، خنقة سيدي ناجي، قسنطينة)، ومن أهم مراكز الطريقة في أواخر العهد العثماني: الحامة قرب العاصمة، وآيت إسماعيل ببلاد القبائل، وزاوية صدوق بناحية سطيف، والبرج قرب طولقة، أولاد جلال، وخنقة سيدي ناجي، ووادي سوف، والمراكز الأربعة الأخيرة تقع بالواحات. ويذكر عن الطريقة الرحمانية أنها قامت بدور محوري في نشر التضامن بين سكان المنطقة ونشر العلم والتآخي خاصة في الريف القسنطيني.

يعود تأسيس الطريقة الرحمانية إلى "محمد بن عبد الرحمن القشتولي الجرجري الأزهري" المولود حوالي 1720م في قبيلة آيت إسماعيل التي كانت جزءا من حلف قشتولة في قبائل جرجرة، الواقعة على بعد 15كلم شرق مدينة ذراع الميزان (تيزي وزو)، ويلقب بالزواوي نسبة بلاد زواوة التي نشأ به، كما يلقب بالأزهري نسبة إلى جامع الأزهر (مصر). زاول تعليمه الأول في مسقط رأسه، ثم واصل تعليمه في الجزائر العاصمة، وفي عام 1739م توجه لأداء فريضة الحج، وفي عودته استقر بالجامع الأزهر فترة طويلة مترددًا على العلماء وشيوخ التصوف مثل "محمد بن سالم الحفناوي"، حيث أصبح "محمد بن عبد الرحمن مريدًا وتلميذًا له حيث أدخله الطريقة الخلوتية. وبعد أكثر من ثلاثين عاما عاد إلى الجزائر بعدما تلقى الأمر من شيخه في مصر "محمد بن سالم الحفناوي" بالعودة إلى بلده ونشر الطريقة الخلوتية، وكان ذلك عام (1177ه) 1757م، حيث أسس زاوية بمسقط رأسه (آيت إسماعيل) وشرع في الوعظ والتعليم، وقد التف حوله جموع الناس من سكان جرجرة.  ولكي يوسع من دائرة دعوته أنتقل إلى (الحامة) بالقرب من العاصمة ويأسس بها زاوية وأخذ في نشر تعاليم الطريقة الخلوتية، لكن سرعان ما أثار سخط المرابطين والعلماء ربما خوفا على نفوذهم. فعاد إلى مسقط رأسه وبعد ستة أشهر من عودته جمع مريديه وأخبرهم بقرب أجله وعين من يخلفه في منصبه وهو "علي بن عيسى المغربي"

لم يحصر "محمد بن عبد الرحمن" نشاطه في نشر دعوته الدينية الصوفية على منطقة جرجرة والعاصمة فحسب، وإنما مدّ نشاطه أيضا إلى اقليم الشرق الجزائري حيث قام بتعيين خليفة له من أبناء قسنطينة وهو "مصطفى بن عبد الرحمن بن الباش تارزي الكرغلي"، فقام هذا الأخير بنشر تعاليم الطريقة في الإقليم الشرقي حيث نصّب عدة مقاديم أشهرهم "محمد بن عزوز" في واحة البرج قرب بلدة طولقة. بعد وفاته (1208ه) 1793م ازدادت الطريقة الرحمانية نجاحًا واتسعت دائرة نفوذها مما زاد في هياج الأتراك وحنقهم، لذا فقد قاموا بمحاولة لوضع حد لتدفق الزوار من كل مكان غلى الزاوية الأم بآيت إسماعيل فدفعوا بثلاث مجموعات استطاعت إحداهما نقل جثمانه إلى الحامة حيث دفن في احتفال مهيب، ثم بنوا عليه مسجدا وقبة، على أن سكان قرية آيت إسماعيل حينما تحققوا أن الجثة لم تفارق قبرها الأصلي بعد أن نبشوه اعتقدوا أن جثة شيخهم قد ازدوجت ومنذ ذلك الحين لُقب "محمد بن عبد الرحمن" بـ :(بوقبرين).

مهما يكن من أمر؛ فإن خليفته "علي بن عيسى" الذي بقي مدة 43 عامًا في منصبه (من 1208ه ـ 1251ه) استطاع أن يدير الزاوية الأم بكل حكمة ونجاح، مما أكسب الطريقة انتشارًا واتساعًا في النفوذ سواء في وسط البلاد أو شرقها وجنوبها، إلا أن موته أفقد إدارة الزاوية الالتحام والوحدة حيث أن خلفاءه لم يتمكنوا من بسط هيمنتهم على مقاديم الزاوية البعيدة التي أهلنت استقلالها عن الزاوية الأم.

3 ـ الطريقة التيجانية:

ظهرت الطريقة التيجانية في أواخر القرن 18م على يد مؤسسها الشيخ "أحمد التيجاني" المكنى بـ "ابن العباس أحمد محمد التيجاني الشريف" وقد تواجدت مراكزها في الجزائر في العهد في : عين ماضي وتيماسين والأغواط وتوقرت وورقلة ووادي سوف.

ولد "أحمد التجاني في عين ماضي سنة (1150ه) 1738م فقرأ بها على شيوخها القرآن إلى أن بلغ نحو العشرين سنة فتوجه إلى فاس لأخذ العلم على علمائها. وتنقل إلى عدة مناطق منها (بوسمغول ـ توات ـ لبيض سيدي الشيخ، تلمسان وغيرها)، وبفاس التقى بأعلام التصوف وتحاور معهم وأخذ عنهم تعاليم التصوف ومبادئ التربية الروحية، وكان أول أساتذته الشيخ "أحمد بن حسان القادري" من مدينة فاس ثم تتلمذ على يد الشيخ "مولاي الطيب الوزاني" شيخ الطريقة الطيبية، وقد دام مكوثه بمدينة فاس حوالي 18 سنة كان خلال يدرس ويتفقه في شتى العلوم الدينية والشرعية. وفي سنة 1773م وأثناء رحلته إلى الحج ولما بلغ منطقة الزواوة أخذ عند الشيخ محمد بن عبد الرحمن الأزهري وأخذ عنه الطريقة الرحمانية الخلواتية، ثم واصل رحلته إلى أن بلغ مقصده في شهر يناير 1774م هناك اتصل بشيخ هندي يدعى "أحمد بن عبد الله" وهو صوفي ورع وتفي زاهد فجالسه مدة شهرين اثنائها توفى الشيخ الهندي، وخلف للتجاني عمله ومعارفه في الطريقة الصوفية. وفي رحلته مر التجاني بالقاهرة وهناك التقى الشيخ "محمد الخيضري" الذي فوضه لنشر تعاليم الخلواتية في شمال افريقيا، فانطلق مباشرة إلى مدينة فاس حيث مكث مدة يتعلم ويعلم العلوم الدين وأسس الطريقة الصوفية الخلواتية، ثم انتقل إلى مدينة تلمسان ومنها توجه إلى قصري بوسمغون والشلالة بالصحراء الشرقية، وهناك بنى خلوة له وانقطع للعبادة، فمكث بها ما يقارب ثمانية عشر سنة داعيا إلى مذهبه، ثم انتقل بين المناطق الصحراوية الفاصلة بين توات والسودان الغربي وتونس يدعو إلى الإسلام وينشر تعاليم طريقته الصوفية، فكان كلما نزل بمكان استأنسه أهلها أطال المكوث عندهم مربيا ومرشدا ويؤسس هناك زاوية له يعين عليها مقدما يكلفه بتلقين طريقته. واستمر بنشر دعوته إلى أن وافته المنية سنة 1815م بمدينة فاس المغربية، التي استقر بها بعد مطاردة باي وهران "محمد الكبير" له واستلائه على قرية عين ماضي، وترك ذخرا كبيرا من المؤلفات الدينية أهمها: (الإرشادات الربانية بالفتوحات الإلهية من فيض الحضرة الأحمدية التيجانية، وهي شرح لقصيدة الهمزية للبوصيري في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، و'جواهر الحقائق في شرح الصلاة المسماة ياقونة الحقائق والتعريف بحقيقة سيد الخلائق).

جوانب من الحياة الثقافية في الجزائر فترة الاستعمار الفرنسي

أولا: السياسة الاستعمارية لتدمير الثقافة العربية الإسلامية:

لعبت الثقافة العربية الإسلامية قديما وحديثا دورا بالغ الأهمية في التماسك الاجتماعي والوطني للمجتمع الجزائري، حيث كانت تربط الجزائريين بماضيهم العربي الإسلامي من ناحية، كما كانت في الوقت نفسه تمثل تيارا قويا يدفع بهم إلى الأمام لتطوير حياتهم والارتقاء بها في جميع المجالات في إطار من الأصالة والتفتح من ناحية أخرى، ولذلك كانت ولا تزال تعدّ من أهم مقومات الشخصية الجزائرية وقد عانت هذه الثقافة طوال فترة الاحتلال المظلمة من محاولات للقضاء عليها مالم تعاني ثقافة أخرى في بلد أخر في العالم.

فتلخص المشروع الاستعماري في تكريس تبعية الجزائر لفرنسا واستعماره واقعيا لا يمكن محو آثاره، فكانت الممارسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر تقوم على تحطيم بنية المجتمع والقضاء على الأسس المادية والروحية التي يقوم عليها وتحييد القيم الحضارية التي يستند إليها وذلك بمحاصرة الشعور الديني ومحو اللغة العربية وإحياء النعرات والنزاعات الإقليمية والقبلية والميول الجهوية وتوطين العناصر الأوروبية لتحل محل الجزائريين.

ولقد تمثلت الممارسة الاستعمارية الفرنسية في تعاملها مع الشعب الجزائري وتطبيق أساليب وطرق مختلفة الهدف منها إنجاح عملية الاستعمار وترسيخه بحيث يصبح واقعا لا يمكن مقاومته والتخلص من آثاره في مختلف جوانب حياة الشعب الجزائري مما يحول مستقبلا دون استرجاع الجزائر لكيانها السياسي وبنائها الاجتماعي وخصوصيتها الثقافية والحضارية.

ومن مزاعم الاحتلال الفرنسي لإخفاء نياته بها، أنه جاء لرفع ظلم الأتراك عن الجزائريين، ورفع الأمية عنهم، ورفع مساوئ الحكم العثماني التركي فهو حكم إسلامي، قائم على الشرعية التامة بمعيار ذلك الزمان، وهو إن لم يشجع رسميا الحركة التعليمية فإنه لم يعرقل جهود المواطنين في تشيد المؤسسات على عكس ما فعل الاستعمار الفرنسي بعده، حيث كانت تلك المؤسسات معاقل للمعرفة (مدارس وكتاتيب وزوايا ومساجد وغيرها) تقترب من ألفي مؤسسة تعليمية عشية الاحتلال، يتعلم فيها ويدرس نحو خمس وعشرين ألف تلميذ وطالب في مختلف المراحل والمستويات، وجدت نفسها في مواجهة سياسة الاحتلال الخاصة بالفرنسة والتنصير، وهي الخطة الملازمة لسياسة الحرق لقرى بكاملها، وإبادة عشائر برمتها، لفرض الأمر الواقع بالقتل والتشريد.

وظهرت الخطة الاستعمارية الفرنسية لتدمير الثقافة الجزائرية لإنهائها كمقوم أساسي للوطنية الجزائرية في السياسة التالية:

أ ـ مصادرة الأوقاف الإسلامية الجزائرية:

كانت الأوقاف المحبسة على المؤسسات الخيرية وخاصة أماكن العبادة والتعليم تؤدي خدمات اجتماعية وثقافية واقتصادية أساسية في المجتمع الجزائري، ولا سيما في المدن الكبرى مثل الجزائر وتلمسان وقسنطينة والبليدة والمدية ومليانة ومعسكر ووهران... فمردود هذه الأوقاف كان يسدّ النفقات الضرورية للمنشغلين بالتعليم أو القائمين على الأمور المتعلقة بأماكن العبادة والتعليم، من قضاة وأئمة ومدرسين وطلبة وشواش ونظار، بالإضافة إلى توفير دخل قار يغطي تكاليف رعاية وإصلاح هذه المؤسسات، ويسد حاجة المصالح العامة كالعيون والسواقي والأفران والحمامات، والثكنات والحصون وغيرها. وكان القرآن أساسيا للتعليم في الجزائر سواء كان تعليما ابتدائيا أو ثانويا أو عالميا، وكانت المدارس على مختلف مستوياتها تموّل وتغذي من الأوقاف التي يحبسها موظفون ساميون في الدولة كعمل من أعمال الخير، فكان هناك أملاك خاصة وعقارات وأراض يذهب ريعها لبناء المدارس وتوظيف المعلمين وتوفير المساكن للطلبة والمعلمين وهكذا بادرت السلطات الفرنسية بمدينة الجزائر إلى إصدار قرارات وسن مراسيم متدرجة في فترات متلاحقة أسقطت مناعته وأخضعته لقوانين المعاملات العقارية الفرنسية، وبذلك تمكن النازحون الأوروبيون حديثا إلى الجزائر من الاستحواذ على بعض الأملاك والأراضي الموقوفة وتحويلها إلى ملكيات خاصة بهم رغم استنكار أعيان الجزائر مثل: "حمدان خوجة" و"أحمد بوضربة" واحتجاج العلماء وفي مقدمتهم المفتيان "ابن العنابي" و"ابن الكبّابطي".فلقد ذكر "خوجة" قائلا في هذا الصدد ما يلي: ((لقد أمر الجنرال كلوزيل بتهديم محلات تدعى القيصرية كانت تبيع الكتب التي هي أدوات الحضارة، والتي كانت تنير طريق الإنسان المثقف. وفيها كان يوجد الناسخون، لأن المطابع كانت معدومة في إفريقيا، وبما أن الفرنسيين كانوا يدخلون الحضارة إلى إفريقيا، فلماذا وقع تهديم هذا المصدر الذي كان يعطي العلم والمعرفة في جميع الميادين؟. إن هذا السلوك يدل أن هذا الجنرال بدلا من أن يعمل على تزويدنا بنور العلم والحضارة، كان ينوي إغراقنا في الظلمات والجهل)).

لقد عمدت السلطات الفرنسية في مدينة الجزائر سنة 1835 إلى التصرف في ألفي وقف كان تابعا لمائتي شخص ومؤسسة، والاستلاء على 27 مسجدا و11 زاوية ومصلى، ولم تعد الأملاك الموقوفة المسجلة في دفاتر نظار الأوقاف تزيد عن 293 وقفا سنة 1843، وكانت قبل ذلك لا تقل عن 500 وقف. زمن هذه القرارات والمراسيم نذكر قرار 8 سبتمبر 1830 الذي سمح بوضع اليد على بعض الأوقاف، ومرسوم 7 ديسمبر 1830 الذي حوّل الأوقاف إلى مراقبة المصلحة العقارية (الدّومين)، ومخطط "جيرردان" (Gerardin) في 25 أكتوبر 1832 الذي تحوّل إلى تقرير مفصل يحدّد وضعية الأوقاف سنة 1838 أخضعت الأوقاف بموجبه إلى المعاملات المتعلقة بالأملاك العقارية وممهدّ أيضا لقرار 30 أكتوبر 1858 الذي وشع إجراءات المعاملات العقارية وجعلها مطابقة للقانون الفرنسي حتى يتمكن الأوروبيون واليهود من امتلاك الأملاك الموقوفة، وبذلك سهل على الإدارة الفرنسية تصفية الأوقاف بصفة نهائية لصالح الاستيطان الأوروبي في الجزائر بمقتضى قانون 1873، وبهذا فقد الجزائريون بتصفية الأوقاف، أحد الأسس التي تقوم عليها حياتهم الثقافية والدينية والاجتماعية، فتناقص عدد أماكن العبادة والتعليم بمدينة الجزائر من 186 (13 مسجدا جامعا و108 مسجدا صغيرا و32 مصلى و12 زاوية) إلى 12 مسجدا منها 8 مساجدا كبيرة بعد سنة 1862. ونفس الأوضاع عرفتها باقي المدن الجزائرية الأخرى، فقسنطينة مثلا انخفض عدد المدارس وأماكن العبادة بها من 86 إلى 30 وتراجع مجموع الطلبة بمدارسها من 600 إلى 60 في أقل من عشر سنوات (1837 ـ 1846).

وقد رافقت إجراءات محاصرة الأوقاف وتصفيتها سن قوانين أخرى أدت إلى الاستلاء على ملكيات الموظفين وخاصة العناصر التركية منهم، الذين رحل أكثرهم إلى الأناضول مما زاد في تخوّف السكان واضطر الكثير من سكان المدن وخاصة مدينة الجزائر إلى الهجرة نحو الأقاليم الداخلية أو الأقطار المجاورة، الأمر الذي ساعد الإدارة الفرنسية على تحويلها إلى مدينة أوروبية تحيط بحي القصبة الجبلي الذي تحوّل إلى ملجأ للجزائريين الذي لم يجدوا بدا من العيش تحت سيطرة الإدارة الفرنسية.   

ب ـ نشر اللغة الفرنسية كأداة للفرنسة والإدماج:

كان هدف الاستعمار في الجزائر بالإضافة إلى الاستغلال الاقتصادي والاستحواذ السياسي لجعل الجزائر قطعة لا تتجزأ من التراب الفرنسي أرضا ولغة وثقافة ودينا، وقد انتهج لذلك سياسة الفرنسة والتي تعنى إحلال اللغة الفرنسية محل اللغة العربية في جميع مجالات الحياة حتى يصبح المجتمع الجزائري فرنسي اللسان والثقافة وينقطع بذلك عن تاريخيه ويفقد مقومات شخصيته الوطنية تدريجيا، ويذوب في بوتقة الأمة الفرنسية، فقد جاء في إحدى التعليمات الصادرة إلى الحاكم بالجزائر غداة الاحتلال: ((إن إيالة الجزائر لن تصبح لغتنا هناك قومية والعمل الذي يترتب علينا إنجازه هو السعي وراء نشر اللغة الفرنسية بين الأهالي إلى أن تقوم مقام اللغة العربية الدّارجة بينهم الآن)). وهكذا شرعت الإدارة الفرنسية في تطبيق سياسة الفرنسة في جميع المجالات والحياة الاجتماعية مبتدئة بمجال التعليم.

ومن ثمة استهدف النظام الاستعمارية والقضاء على التعليم العربي في البلاد ومؤسساته وقد سبق وأن رأينا موقف "كلوزيل" منه، بعد أشهر من احتلال مدينة الجزائر وما ترتب من خسائر كبيرة، لا بالنسبة للتعليم العربي ولكن أيضا بالنسبة للثقافة الجزائرية بصفة عامة، فمنذ احتلال الجزائر سنة 1830، لم يخفِ الفرنسيون مشاريعهم الإدماجية وعنصريتهم وتحيزهم المفرط لثقافتهم ولغتهم ودينهم، بحيث اعتبروا هذه العوامل مكملة لبعضها البعض، وعلى أنها روافد تصب في نهر واحد، نهر الاستعمار والحفاظ على المصالح المادية لفرنسا في الجزائر ـ حسب منظري الاستعمار الفرنسي ـ يقتضي بعض الشروط الضرورية للحفاظ عليها على المدى البعيد، من ذلك اعتبروا المدرسة هامة، بل الوحيدة للسيطرة على عقول الجزائريين، ذلك بعد أن تمّت لهم السيطرة على أبدانهم وإخضاعهم بالقوة لسلطان الاستعمار.

أمام هذا الوضع ما كان على سلطات الاحتلال إلا أن تعمل على تقليص تعليم اللغة العربية من خلال هدم المؤسسات القديمة القائمة، حيث تذكر المؤرخة "ايفون تورين" (Yvonne Turin): أن الكارثة تبدو أكبر بكثير، فقبل وصول الفرنسيين كانت بمدينة الجزائر توجد 39 مؤسسة للتعليم العمومي، زاويتان اثنتان و37 مسجدا، لم يبق منهم إلا ثلاثة مدارس فقط من 39 مدرسة، أما في قسنطينة فقد تقلص من 90 مدرسة إلى 30 مدرسة فقط.

إصافة على هدم وسائل التكوين راحت السلطات الاستعمارية تطارد رجال التعليم بلا هوادة للقضاء على المؤسسات التعليمية الموجودة والتي كانت في نظرها تنشر إيديولوجية وطنية مناهضة لمصالح الاستعمار، وهو ما يؤكده المؤرخ "موريس فاهل" (Maurice Wahl) وأحد غلاة الاستعمار المتحمسين للإشعاع الثقافي الفرنسي في الجزائر حيث يقول: ((لقد شرعنا بادئ ذي بدء في هدم كل المسايد (وهي المدارس الابتدائية) والزوايا والمدارس (الثانوية) وبعض المدارس الإسلامية الأخرى الموجودة قبل 1830 وبعدها عكفنا في إجراء تجارب ارتجالية لم تنجز سوى نتائج هزيلة أحيانا سلبية)).

وفي الإطار نفسه يذهب المؤرخ الفرنسي "شارل روبير أجرون" (Charles Robert Ageron) إلى أبعد من ذلك إذ يقول: ((لم تفلح سياسة الإدماج إلا في القضاء على التعليم الإسلامي والحد من انتشار التعليم الفرنسي، يضاف إلى ذلك كله عمل السلطات الاستعمارية على نهب التراث الثقافي العربي الإسلامي الذي عثر عليه في المكتبات الجزائرية مثل المخطوطات والوثائق والكتب، فلقد كان الناهبون يرسلون محتوياتها لذويهم في فرنسا أو يبيعونها لتجار الكتب الأوروبيين  الذي يأخذونها إلى أوروبا))، هذا فضلا عن المكتبات والكتب التي أحرقوها أو بعثروها كما فعلوا بمكتبة الأمير "عبد القادر" قائد المقاومة الجزائرية في سنوات الاحتلال الأولى (1832 ـ 1847) بعد أسره في 1847 ويذكر المؤرخون أن الأمير أصابته نوبة من الحزن الشديد وهو يتبع آثار الطابور الفرنسي مسترشدا بالأوراق المبعثرة في الصحراء التي انتزعها الجنود الفرنسيون من الكتب التي عانى الكثير، وهذا هو تفسير ظاهرة انتشار المخطوطات العربية في مكتبات البلديات الفرنسية.

ومن جهة أخرى؛ عملت السلطات الفرنسية على إنشاء المدرسة الاستعمارية دون أن تخرج من نطاقها التجهيلي، ففي سنة 1833 فتحت مدرستان سميت مدارس التعليم المتبادل (L'enseignement mutuel)، أي إعطاء التعليم الفرنسي للجزائريين والتعليم العربي للفرنسين فتحت الأولى بوهران والثانية بعنابة. أما أول مدرسة أنشأت لتعليم الجزائريين باللغة الفرنسية، فهي المدرسة الابتدائية التي سمت بالمدرسة العربية الفرنسية (École arabe - française)، وكانت في سنة 1836 بمدينة الجزائر وخاصة بالذكور وكان الغرض من هذه المدرسة هو تقريب الجزائريين من الأوروبيين وكسب ولائهم قصد تحضيرهم للإدماج، ثم أسست أول مدرسة للبنات في مدينة الجزائر سنة 1845 وهي مبادرة خاصة على، وكان غرار المدارس الخاصة بالأطفال فتحت مدرسة للكبار في 1837 لتعليم اللغة الفرنسية للذين يشغلون في الخدمات والإدارات الفرنسية، وقد بلغ عدد التلاميذ الجزائريين في سنة 1844 حوالي سبعة تلاميذ مقابل مائة تلميذ أوروبي.

وللإشارة هنا أن تعليم الجزائريين كان يخضع مباشرة لإشراف الحاكم العام، وحتى سنة 1848 كان التعليم العربي تابعا لوزارة الحربية الفرنسية، بينما كانت إدارة التعليم في المدارس الأوروبية يتبع مباشرة لوزارة التربية والتعليم في فرنسا.

وفي سنة 1848 تأسست أكاديمية الجزائر (مديرية التربية والتعليم) لتشرف على التعليم وتتصل مباشرة بوزارة التربية والتعليم في باريس ويرأسها مفتش عام (أو مدير عام) يساعده نائبان، ثم تأسست بعد ذلك ثلاثة مناصب (في مقاطعات الجزائر الثلاث) لمفتشين خاصين بالتعليم الابتدائي، ويظهر ذلك من خلال التنظيم الجديد والأولى تحيز الإدارة الفرنسية للفرنسيين وتميزها بين التعليمين الأول منظم وخاص بالأوروبيين، أما الثاني فلا أساس له وخاص بالجزائريين.

وفي سياق الحديث عن الفعل النافذ للاحتلال الفرنسي لفرنسة اللسان والفكر والشعور على الجبهة التعليمية والاجتماعية ينبغي أن لا نغفل على جسر آخر دشنه على هذه الجبهة لا لمجرد التعليم فحسب بل التوغل عبر وسائط في حياة الجزائريين وهو ما يمثله مشروع المدارس الإسلامية الثلاث ذات الطابع التخصصي، التي أنشأت بمرسوم صادر في 3 سبتمبر 1850 تنحصر مهمتها في إعداد موظفين في الشؤون الدينية والقضائية والإدارية، يصير المتخرجون منها همزة الوصل بين المحتلين والمواطنين، ينوبون عن المحتل بإدارة شؤون المواطنين في المنازعات القضائية والدينية، وقد وزعت المدارس على ثلاث جبهات من الوطن، الأول في غربه ومقره تلمسان والثانية في وسطه بمدينة المدية، ثم نقل مقرها إلى العاصمة سنة 1858، أما الثالثة ففي شرق الوطن بمدينة قسنطينة، ولكن الذي سيعطى دفعا ونفسا جديد للتعليم العمومي في الجزائر هو السيد "جول فيري" (Jules Ferry) الذي اهتم بالقضية منذ 1879 قبل أن يعرف الجزائر، ومن فرنسا كتب إلى الحاكم العام الفرنسي "قريفي" (Grevy) يقول له: (( تراودني رغبة كبيرة في أن أضع تحت الدراسة كل القضايا التي لها علاقة بالتعليم العمومي في الجزائر، وعلى رأسها قضايا التعليم الابتدائي)). ولقد توجت الجبهة التعليمية الفرنسية في الجزائر بصرح هام هو جامعة الجزائر سنة 1908 لكنها كانت القلعة الحصينة التي لا يصلها الجزائري إلا بعد مروره في غرابيل عديدة في كل المراحل السابقة حيث لا تتاح الفرصة فيها إلا لمن بات مضمونا في حجر الاستعمار يجري في دمائه حب فرنسا.

وتجدر الإشارة هنا؛ إلى أن السلطة الفرنسية عملت على مسخ وتشويه تاريخ الجزائر بتجاهله أحيانا وحرمان الجزائريين من دراسته الدراسة الصحيحة في المؤسسات التربوية التي أنشأتها لهذا الغرض والتدخل لإلغائه في المدارس التعليمية الحرة أحيانا أخرى، فمادة التاريخ التي تعتبر بمثابة شعور الأمة وذاكراتها ووعيها بكيانها، وإذا كان التاريخ كذلك هو شعلة الماضي لإنارة الحاضر والمستقبل فقد كان له هدف مغاير في المدرسة الفرنسية التي أسستها الإدارة الفرنسية الاستعمارية، لأنها كانت تهدف من وراء دراسته إلى إنكار الذاتية الجزائرية والمساهمة في تحبيب فرنسا إلى الجزائريين من خلال إبراز الحضارة الغربية. فالبرامج التعليمية للجزائريين كانت مشابهة ومطابقة للبرامج التعليمية الفرنسية خاصة في عهد الجمهورية الثالثة وذلك لتسهيل عملية الإدماج وبالتالي القضاء على الشخصية الجزائرية بتجريدها من مقاومتها.

الصحافة الجزائرية فترة الاستعمار الفرنسي (1830 ـ 1962)

تقول الكتابات التاريخية أن نشأة الصحافة في الجزائر كان بمبادرة فرنسية، ولأن الجزائر لم تعرف قبل الاحتلال الفرنسي هذه الظاهرة الإعلامية والثقافية رغم مرور حوالي قرنين على ظهورها في أوروبا، وتذكر هذه الكتابات أيضا أن أول محاولة على الأرض الجزائرية كانت يوم 26 جوان 1830 عندما سحبت من أعداد من صحيفة تدعى (بريد الجزائر L'estafette D'Alger) بالمعسكر الذي أقامه الجيش الفرنسي في سيدي فرج. وقد تم سحبها في المطبعة العسكرية المحمولة في إحدى السفن، وكانت تسمى المطبعة الافريقية. وقد صدر من "الاسطافيت" عدة أعداد كانت ترسل إلى فرنسا وتطبع من جديد وتوزع هناك حاملة أخبار نجاح الحملة وسقوط حكومة الداي ودخول الجيش الفرنسي إلى القصبة وغير ذلك. ثم في عقد "الدوق دو رفيقو" (Duc de Rovigo) أنشأ جيش الاحتلال جريدة (الممرن الجزائري Moniteur Algérien) في شهر جانفي 1832، وكانت هي الجريدة الرسمية للفرنسيين في الجزائر، وباعتبارها كذلك كانت تطبع في المطبعة الأفريقية ـ الحكومية ـوتحتوي على الاعلانات والقراراتـ وبعض الأخبار الخاصة بحركة النقل بين الجزائر وفرنسا، وتوافد المستوطنين (الكولون) الفرنسيين على الجزائر. وفي 1834 أنشأ (المونيتور) قسمًا باللغة العربية المكتوبة بأسلوب ركيك لا يكاد يقرأ، ورغم ذلك فإن (المونيتور)  تعتبر أول صحيفة نشرت بالعربية في الجزائر قبل ظهور جريدة (المبشر) سنة 1847.

تمثل جريدة (المبشر) التي صدرت في 15 سبتمبر 1847 على يد الإدارة الاستعمارية الفرنسية أول جريدة ظهرت باللغة العربية في الجزائر وثالث جريدة في العالم العربي بعد كل من جريدة (الحوادث اليومية) التي أنشأها الفرنسيون سنة 1799 وقيل سنة 1801 في مصر بعد حملتهم عليها، وجريدة (الوقائع المصرية) التي أمر بإنشائها "محمد علي الكبير" بتاريخ 03 ديسمبر سنة 1828. وحقيقة أمر صحيفة (المبشر) أنها لا تعد في عداد الصحف العربية كونها كانت تمثل الاحتلال الفرنسي، الذي أصدرها بعد رسوخ أقدامه في بلادنا، ولأنها كانت لا تنشر إلا ما يهم هذا الاحتلال عسكريا وإداريا، كما أن لغتها العربية كانت ضعيفة وهي مزدوجة اللغة، واستمرت في الصدور إلى سنة 1927.

ولم يتوقف انشأ الفرنسيين للصحف المزدوجة باللغتين الفرنسية والعربية أو بالعربية، ولكنها كما يبدو لم تعمر طويلا وهي: (النصيح) (1899 ـ 1900) التي كانت تصدر باللغة العربية لصاحبها الفرنسي المستعرب "أدوار قوسلان" (D. Gosselin)، وجريدة (الجزائري) 1900 التي أنشأها مدير الشؤون الأهلية "لوسياني" (Luciani)، و(المغرب) 1903 صاحب امتيازها "بيار فونطانا" (P. Fouatana)، و(الأخبار) التي أصدرتها الولاية العامة الفرنسية في الجزائر منذ 1839 باللغة الفرنسية أصبحت منذ بداية 1903 وتحت اشراف "فيكتور باروكان" (V. Barrucand) و"ايزابيل ابرهارت (I. Eberhardt) أصبحت لها صفحتين بالغة العربية، و(الاحياء) سنة 1907 لمستشرقة الفرنسية "جان ديتايو (J. Destayaux) أو "جمانة رياض" أو "فاطمة الزهراء" كما كانت توقع في كتاباتها.

أما بخصوص الجرائد التي أنشأها الجزائرييون فيمكن تقسيم مراحلها إلى ثلاث مراحل بقطع النظر عن اللغة التي كتبت بها؛ المرحلة الأولى قبل الحرب العالمية الأولى (بالتقريب من 1890 إلى 1914)، والمرحلة الثانية من 1919 إلى 1939، والمرحلة الثالثة من 1940 إلى 1956.

المرحلة الأولى (من 1890 إلى 1914):

في هذه المرحلة ظهرت فيها الصحف التالية:

ـ الحق: هي جريدة أسبوعية ظهرت في عنابة في 10 جويلية 1893 على يد "سليمان بن بنقي" و"عمر السمار" و"خليل قايد العيون"، صدرت في أول الأمر باللغة الفرنسية، ثم ظهرت بعدد السابع عشر  مزدوجة باللغتين العربية والفرنسية، وكانت حاملة هذا التعريف: ((جريدة فرانسوية، عربية، سياسية، أدبية، في شؤون العرب الجزائريين))، ومن خلال تعريفها هذا المعلن أن هدفها هو الدفاع عن مصالح العرب الجزائريين ومصالح الفرنسيين الذين استجابوا "للمشاعر الوطنية" دون غيرهم. استمرت (الحق) حوالي سنة لا يعرف هل توقفت بنفسها أو أوقفتها الإدارة الفرنسية.

ـ المصباح: ظهرت في شهر جوان 1904 بمدينة وهران، وصاحبها هو "العربي فخار" أحد المعلمين المثقفين باللغة الفرنسية، وكانت تصدر مرة في كل أسبوع محررة باللفتين العربية والفرنسية، وكانت تهدف إلى تحيق شعارها هو: ((من أجل فرنسا بالعرب، ومن أجل العرب بفرنسا)) على أنها كانت تهتم بقضايا الأهالي تهتم بقضايا الأهالي الجزائريين مطالبة بحقوقهم، ولكن بأسلوب فيه غير قليل من التملق والضعف والتردد. لم تستمر (المصباح) طويلا في الصدور بسبب عدم رواجها حيث لم يتجاوز عدد المشتركين فيها 1700 مشتركا، مما لم يشجعها فتوقفت عن الظهور في 10 فيفري 1905.

ـ كوكب إفريقيا: بوحي من الإدارة الفرنسية أيضا صدرت كوكب إفريقيا برئاسة تحرير الشيخ "محمد كحول" وأحد الفرنسيين اسمه "لويس بودي"، وكان مدير الجريدة هو "بيير فونتانة" وكانت (الكوكب) تصدر في العاصمة، ويبدو أن إدارة الشؤون الأهلية هي التي كانت تمونها، غير أن اشراف "كحول" الذي هو أحد الأساتذة المتمكنين في اللغة العربية وأحد تلاميذ الشيخ "المجاوي" ندما كان في قسنطينة ضمن لها تحريرًا جيدًا ومستوى رفيعًا بالقياس إلى ما عرفته الصحابة العربية الأخرى من انحطاط في الأسلوب والفن الصحفي. وكونها كانت موجهة إلى الجزائريين فإن هذه الجريدة كانت تصدر كل يوم جمعة، وكانت تعلن عن نفسها أنها ((صحيفة أسبوعية سياسية، أدبية، علمية، فلاحية، تجارية، صناعية))، وقد صدرت في 17 ماي 1907 في أربع صفحات، واستمر صدورها إلى غاية 1914.  

ـ الجزائر: كانت أول جريدة شعبية ظهرت في العاصمة كما يقول "أحمد توفيق المدني" أصدرها الكاتب الكبير والفنان المبدع "عمر راسم" يوم 27 أكتوبر 1908، ولكنها لم تعمر طويلا حيث صدر منها ثلاثة أعداد، وعطلها الاستعمار وزج بصاحبها في السجن، الذي عرف عنه لهجته الوطنية الحادة، فكان من أهداف الجريدة كما جاء في عددها الأول توعية الشهب الجزائري، وتثقيفه واطلاعه على أسرار السياسة الداخلية والخارجية.

الإسلام: ظهرت أولاً في عنابة سنة 1909، وكانت جريدة أسبوعية أنشأها "عبد العزيز طبيبال" قيل أنه كان متجنسًا وقليل التعلم وفي خدم الإدارة الفرنسية، وكانت تصدر بالفرنسية، ثم تحولت (الإسلام) إلى العاصمة من قبل مؤسسها الحقيقي "الصادق دندان" وهو رجل كاتبًا  في إحدى البلديات المختلطة، وكانت الجريدة متأثرة بالصحافة الباريسية، وشارك في تحريرها بعض الكتاب الفرنسيين أيضا، واستمرت بدون انقطاع إلى عشية الحرب العالمية الأولى. وبداية من 26 جويلية 1912 أصدر نسخة باللغة العربية غير أنها كانت معربة عن الأصل الصادر بالفرنسية حرفيا، وكان الذي يقوم بتعريبها هو "عز الدين القلال" التونسي الأصل، أما أهداف الجريدة فكانت الدفاع المطالبة بحقوق المسلمين الجزائريين، واطلاعهم على ما تنشره الصحافة الفرنسية عما يتعلق بقضاياهم السياسية والاقتصادية.

ـ الفاروق: أصدرها "عمر بن قدور الجزائري" في العاصمة بتاريخ 18 فيفري 1913، وتعد أول جريدة وطنية ترتقي إلى مصاف الجرائد المعتبرة وكانت اسلامية وطنية محضة، طالما اهتمت بقضايا المسلمين وحللت واقعهم المرير. كانت جريدة أسبوعية استمرت ثلاث سنوات ثم أوقفتها الإدارة الاستعمارية، ونفوا صاحبها إلى الأغواط مشيًا على قدميه.

ـ ذو الفقار: أصدرها "عمر راسم" سنة 1913، وكان يوقع أسمه باسم "أبو منصور الصنهاجي"، لم يصدر منها سوى ثلاثة أعداد بين أوت 1913 وجوان 1914، وكان "عمر راسم" يقظ الذهن مطلعًا على أحوال العالم، وأدرك هو وزميله "عمر بن قدور" منذئذ ما يحاك لفلسطين والقدس والمخططات الصهيونية في الوطن العربي. وقد نبها إلى ذلك مبكرًا لأن المؤشرات قد ظهرت بعد سقوط السلطان "عبد الحميد الثاني"، وكان "مر راسم" هو الذي يحرر ويخطط جريدته ويطبعها على الحجر.

ـ البريد الجزائري: بعد توقف جريدة (الإسلام) المعربة عن الصدور، قام "محمد عز الدين القلال" بإصدار جريدة خاصة به، سماها (البريد الجزائري) صدر عددها الأول في 28 أوت 1913، وجعل شعارها الآية الكريمة ((واعتصموا بحمل الله جميعا ولا تفرقوا))، وخطة ((مقاومة انحطاط الأخلاق قبل كل شيء)) وعمد "القلال" تحرير جريدته بعبارة بسيطة ولغة واضحة ((بدون أدنى ترصيع ولا تنسيق وحتى لا يحرم من فهمها القاصدون في فنون اللغة العربية))، غير أن الجريدة التي كانت ضعيفة المحتوى، وسرعان ما توقفت عن الصدور إذ لم يظهر منها سوى أربعة أعداد فقط.

المرحلة الثانية (1919 ـ 1939):

بعد اختفاء كل الصحف السالفة الذكر بسبب الحرب عدا الصحف الفرنسية الصادرة عن الإدارة أو التي كان يديرها المستوطنون، ورغم قصر التجربة فإن الجزائريين قد اكتسبوا مهارة في فن الصحافة، وزادتهم الحرب تمرسًا واطلاعًا على مجريات الأمور السياسية. ولذلك نشأت بعد الحرب صحف ذات طابع نضالي في أغلبها، على أن هذا لم يمنع من ظهور صحف أخرى ظلت على الخط القديم الداعي إلى الاندماج والتقارب بين الجزائريين والفرنسيين،. كما دخل تيار الطرقي (الصوفي) أيضا في ميدان الصحافة، وبظهور الأحزاب والجمعيات تبلورت المواقف وأصبح لكل حزب أو جمعية أو تيار جرائده، وظلت لغة الجرائد عربية أو فرنسية وقل منها المزدوج، كما أن الإدارة الفرنسية استمرت في نشر جرائدها القديمة كالمبشر إلى 1927، أو في دعم جرائد يديرها جزائريون، ومن جانب آخر فإن مسألة شرعية اللغة العربية في الصحافة ظلت قائمة بين الإدارة وأصحاب هذه الصحف، كون القوانين الفرنسية كانت تعتبر اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر ويطبق عليها قانون الصحافة الأجنبية، ولذلك كانت الصحافة المكتوبة بالعربية تعاني اضطهادًا خاصًا خلال هذه المرحلة الثانية سيما تلك التي تبت قضايا وطنية واضحة.

مهما يكن فإن من الجرائد التي ظهرت في هذه الفترة نذكر: (النجاح)؛ التي أصدرها الشيخ "عبد الحفيظ بن الهاشمي الطولقي" بمدينة قسنطينة في 1919  وهي أول محاولة لظهور الصحافة العربية بعد الحرب العالمية، كان الشيخ "عبد الحميد بن باديس" من المساهمين في ظهورها، نشأت في البداية كجريدة وطنية أسبوعية، ومنذ جانفي 1930 أصبحت يومية، وقول المؤرخون أنها بعد 1931 تحولت إلى جريدة وموالية للإدارة الفرنسية، وأصبحت تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، واستمرت إلى 1956.

وهناك أيضا: جريدة (الصديق)؛ التي أصدرها "عمر بن قدور" مع "محمد بن بكير" في 12 أوت 1920 وكانت (الصديق) جريدة أسبوعية إلا أنها لم تعمر طويلا، وكان من كتابها "محمد العابد العقبي" و"المولود الزريبي" الذي تولى تحريرها بد من "عمر من قدور" ابتداء من العدد السابع واستمرت حتى سنة 1922.

وفي سنة 1920 ظهرت جريدة (الإقدام)؛ التي كانت تعبر عن حركة الأمير "خالد" السياسية الوطنية، باللغتين العربية والفرنسية، وكان الأمير هو رئيس تحرير قسمها العربي، وصاحب المقالات والافتتاحيات و(الإقدام) كانت جريدة أسبوعية علمية سياسية اقتصادية، ظلت تصدر إلى 1923 حين حكمت السلطات بنفي الأمير "خالد" من الجزائر، كانت (الإقدام) أول جريدة عربية حادة اللهجة مع الفرنسيين معبرة عن مطالب المسلمين الجزائريين. أما خصوم الأمير "خالد" من أنصار الدكتور "بلقاسم بن التهامي" دعاة التجنيس والادماج، وبإيعاز من الإدارة الاستعمارية أنشأ الأستاذ "صويلح" سنة 1921 جريدة باسم (النصيح) مزدوجة اللغة أسبوعية بالعاصمة، غير أنها كانت ضعيفة المحتوى والاخراج والانتظام، لكنها اختفت قبل نهاية العام. كما أنشأ "ابن التهامي" نفسه في 25 ماي 1923 بالعاصمة جريدة باسم (التقدم) مزدوجة اللغتين وتولى هو تحريرها، وكانت تعبر عن الاتجاه الاندماجي، ثم أصبحت لسان حال حركة يمينية كانت تابعة للحزب الفاشيستي الفرنسي، وكان "ابن التهامي" نفسه قد أصبح عضوًا في هذا الحزب. استمرت هذه الجريدة مدة عشرة سنوات أو تزيد، غير أن نسختها العربية منها توقفت عن الصدور في سنة 1926.

وفي 2 جانفي 1923 ظهرت صحيفة (لسان الدين) في العاصمة ثم انتقلت إدارتها إلى مستغاتم، وهي تابعة للطريقة العليويّة، وكان محررها الأول هو "حافظ مصطفى"، ثم تولى تحريرها "الحاج عدة بن يوسف" صهر الشيخ "أحمد بن عليوة". واستمرت في الصدور حتى سنة 1939.

أما بخصوص الجرائد الاصلاحية؛ فكانت المبادرة الأولى للشيخ "عبد الحميد بن باديس" مع جريدة (المنتقد) في الثاني من شهر جويلية 1925 بمدينة قسنطينة، والتي دامت أربعة أشهر. وبعد صدور (المنتقد) بأسابيع قليلة برزت للوجود إصلاحية أخرى تحمل شعارًا جريئًا وهو ((الجزائر للجزائريين)) وهو اسم الجريدة (الجزائر) ومكتوبا في وسط هلال، وكان الهلال معنى وطني معروف في تلك الفترة، وكان صاحبها "محمد السعيد الزاهري" وعطلت بعد صدور عدد أو اثنين.

ثم أصدر الشيخ "ابن باديس" جريدة (الشهاب) في 12 نوفمبر 1925 بعد تعطيل جريدة (المنتقد) واستمرت الشهاب إلى غاية 1939. ونفس شهر صدور (الشهاب) أصدر "أحمد بن العابد العقبي" بمدينة بسكرة (صدى الصحراء) وذلك بمساهمة كل الشيخ "الطيب العقبي" و"محمد الأمين العمودي" والشاعر "محمد العيد آل خليفة" توقفت على الصدور يوم 29 فيفري 1926، ثم عادت من جديد لظهور في شهر سبتمبر 1934 لكن مخالفة لخطها الإصلاحي الأول ومعادية لجمعية العلماء المسلمين، ويبدو أن عددها العشرين الذي صدر في يوم 12 أكتوبر 1934 هو الأخير. وخلفا لجريدة (صدى الصحراء) أنشأ الشيخ "الطيب العقبي" جريدة (الإصلاح) ببسكرة في شهر سبتمبر 1926، وهي الجريدة التي استمرت إلى غاية 1926، وهي التي ستعود سنة 1940.

وفي سنة 1933 أصدرت جمعية العلماء المسلمين الجزائرية سنة 1931 صحفها الخاصة وكانت أسبوعية، وهي (الشريعة) سنة 1933 بقسنطينة ولم تعمر سوى واحد وأربعين يوما، (الصراط السوي) بقسنطينة من 1933 إلى 1934، (السنة) سنة 1933 ودامت أربعة أشهر، وأخيرا (البصائر) من 1935 إلى 1939، وهي من أكبر الصحف العربية شهرة وانتشارا ومن أعظمها أهمية لما تركته من أثر عميق في مجرى الحياة الوطنية وجميع نواحيها.

ومن الجرائد التي كانت موالية لحركة الإصلاح والاتجاه الوطني نذكر جريدة (البرق) التي أنشأ "عبد المجيد الرحموني" بقسنطينة في مارس 1927 وكان شعارها ((خدمة الوطن والمصلحة العامة))، وكذلك جريدة (المرصاد) في ديسمبر 1931 لصاحبها "عبابسة الأخضري" وكان صاحب الامتياز هو "محمد جوكلاي" وهو فرنسي اعتنق الإسلام، وكانت هذه الجريدة موالية لجمعية العلماء ومؤيدة لكتلة النواب المنتخبين الجزائريين. وبعد توقفها سنة 1934 خلفتها جريدة (الثبات) التي نولاها أيضا "محمد عبابسة الأخضري". ومن الجرائد المساندة للاتجاه الإصلاحي والوطني والتي ظهرت في هذه الفترة جريدة (أبو العجائب) لصاحبها "محمد العابد الجلالي" الذي أنشأها سنة 1935، وجريدة (الليالي) لصاحبها الشيخ "علي بن سعد القماري" سنة 1936، وقبل ذلك ظهرت جريدة (الحارس) لصاحبها "عبد الرحمن الغريب" سنة 1933 وجريدة (المغرب العربي) التي أسسها "حمزة بوكوشة" في وهران سنة 1937، وجريدة (الدفاع La Défense) لصاحبها "محمد الأمين العمودي" وقد أسسها سنة 1935 وكانت باللغة الفرنسية.

أما من صحف الشيخ "أبي اليقظان" أحد أعضاء الجمعية المؤسسين فهي كالآتي: (المغرب) 1930، (النور) 1931، (البستان) 1933، (النبراس) 1933، (الأمة) 1933، (الفرقان) 1938.

ومن الجرائد التي تقف في الصف لمخالف للعلماء جريدة (الوفاق) التي أنشأها "محمد السعيد الزهري" سنة 1938 في وهران، والذي أصبح ينتقد رجال الجمعية مثل "الإبراهيمي"، و"الميلي". وأيضا جريدة (البلاغ) التي صدرت في مستغانم سنة 1926 التي كان يشرف عليها "محي الدين حدوني"، التي كانت تابعة للطريقة العليوية. جريدة (الإخلاص) سنة 1932التي أنشأ العلماء الطرقيين المنشقين على جمعية العلماء، وهي الجريدة التي كان رئيس تحريرها الشيخ "المولود الحافظي"، ومن جرائد هؤلاء العلماء الطرقيين: جريدة (المعيار) و(الجحيم) سنة 1933. ومن الجرائد أيضا المضادة للعلماء (الرشاد) لصاحبها "عبد القادر القاسمي" سنة 1938.

ومن الصحف الغير معروف نذكر: (الحق) التي ظهرت في بسكرة سنة 1926 لصاحبها "علي بن موسى العقبي"، وأيضا جريدة (صوت الشعب) في العاصمة سنة 1934 لصاحبها "علي بن أحمد التبسي" وكذلك هناك: جريدة (صدى لحراكتة) في أم البواقي لصاحبها "حساني رمضان" سنة 1935.

أما السياسية الإندماجية؛ فإلى جانب جريدة (التقدم) السالفة الذكر هناك جريدة (الوفاق L’entente) التي كان مديرها السياسي الدكتور "محمد الصالح بن جلول" ومحررها هو "فرحات عباس" ومن جرائد هذا الاتجاه جريجة (الميدان) التي ظهرت سنة 1938 في قسنطينة بالعربية وكان رئيس تحرير "محمد الحسن المرزوقي" واستمرت حوالي سنتين. وأنشأ "الزناتي" صحيفة (صوت الأهاليLes voix des humbles ) في قسنطينة سنة 1929.

أما التيار الشيوعي، من جرائده (الكفاح الاجتماعي Lutte sociale) التي كان يشرف عليها الفرنسي "فيكتور سبيلمان" ثم أصدر فرع الحزب الشيوعي الفرنسي في الجزائر جريدة باسم (الباريا Baria) وأخرى بالعربية تسمى (الراية الحمراء) خلال العشرينات، وفي الثلاثينات صدرت جريدة (الجزائر الجمهورية Alger Républicain  )

أما التيار الاستقلالي ممثلا في (نجم شمال فريقيا) الذي تأسس في باريس سنة 1926 ووريثه (حزب الشعب الجزائري) الذي تأسس أيضا في باريس 1937، فإن الأول أعاد إصدار جريدة (الإقدام) التي كان يصدرها الأمير "خالد" بعنوانين على التوالي: (الإقدام الباريسي) ثم (الإقدام الشمال أفريقي) وكلاهما لم يعيش طويلا، وكانا بالفرنسية، أما أول جريدة هي (الأمة) التي صدرت بالفرنسية في أكتوبر 1930 بفرنسا، وكان "مصالي الحاج" هو مديرها السياسي، وقد استمر إلى غاية 1939 رغم التعثر. أما حزب الشعب الجزائري فقد أنشأ جريدة بالعربية سنة 1937 سماها (الشعب) وقد اشرف عليها "مفدي زكريا" و"محمد قنانش"، وكان صدورها في العاصمة، ولكن تجربتها كانت قصيرة، ثم أنشأ الحزب جريدة أخرى باسم البرلمان الجزائري في 3 جوان 1939. وكانت تصدر بالعاصمة.

المرحلة الثالثة (1940 ـ 1956):

لقد توقفت كل الصحف الجزائرية أثناء الحرب العالمية الثانية ما عدا جريدة الإصلاح التي عادت إلى الظهور وجريدة (الأمة) لصاحبها "لبا سعيد عدون" التي ظهرت سنة 1940 واستمرت مدة عامين، وجرائد: (يالله) سنة 1939، و(الدليل) (1940 ـ 1941)، و(النصر) 1943. وإن كانت هذه الجرائد جزائرية أنشأ جزائريون لخدمة مصالح المسلمين الجزائريين ولو كانت تلك المصالح في نظرهم في الاندماج والتقارب مع الفرنسيين.

في عام 1944 أنشأت حركة أحباب البيان والحرية جريدة (المساواة Egalité)  بالفرنسية، وتوقفت بسبب انتفاضة ثامن ماي 1945، ثم أنشأ "فرحات عباس" بعد تأسسه حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري جريدة (الجمهورية الجزائرية La République algérienne) سنة 1948، التي كانت تعبر عن فكره السياسي الجديد، أي الابتعاد عن المناداة بالاندماج، وبعد سنة أنشأ جريدة أسبوعية باسم (الوطن) وأسندها إلى السيد "عبد الرحمن رحماني" وهي الجريدة التي استمرت حوالي سنة.

أما الحزب الشيوعي الجزائري فقد أنشأ حوالي سنة 1946جريدة (الجزائر الجديدة) التي استمرت حتى سنة 1957، وكانت تصدر باللغة العربية ونصف شهرية، كما كانت له جريدة (الجزائر الجمهورية)، وكانت تصدر أسبوعيا ثم أصبحت يومية إلى غاية أن أوقفتها السلطات الفرنسية سنة 1957، كان من كتابها من المثقفين المسلمين (الأهالي) والمثقفين الفرنسيين. وقد كتب فيها في بداية حياتهم كل من "محمد ديب" و"كاتب ياسين" و"ألبير كامو"، ... ومن كتابها الجزائريين أيضا "الصادق هجرس" و"البشير حاج علي" و"عبدالحميد الزين". كما أصدر الحزب الشيوعي الجزائري جريدة باسم (الحرية La liberté).

بخص

بخصوص حركة انتصار الحريات الديمقراطية التي ظهرت في سنة 1946 فقد أصدر جريدة باللغة الفرنسية باسم (الجزائر الحرة Algérie libre) لكن السلطات الفرنسية صادرتها وهي ما تزال تحت الطبع في عددها الأول، فانتقلت إلى باريس فصدر منها بعض الأعداد لكنها عطلت من جديد، ثم عادت للصدور من جديد بالجزائر مرة أخرى فصدر منها ثلاثة أعداد وعطلت من جديد، كما أصدرت حركة الانتصار جريدة بالعربية باسم (صوت الجزائر) في شهر نوفمبر 1953 بالعاصمة، كان رئيس تحريرها "مصطفى فروحي" النائب المجلس الجزائري، وأحد المركزيين البارزين في الحزب، لكن الجريدة توقفت بعد اندلاع الثورة التحريرية في شهر نوفمبر 1954. وأيضا صدرت للحركة جريدة باسم (صوت الشعب) في 21 أوت 1954 تمثل جناح المصاليين، وكان رئيس تحريرها "مولاي مرباح"، وكانت أسبوعية سياسية تنادي بالطفاح التحريري في جميع الميادين شعارها ((كفاح، نظام، تضحية)) توقفت في 30 أكتوبر 1954.

كما صدرت صحيفتان قريبتان من حزب الشعب الجزائري (حركة الانتصار) هذان الصحيفتان هما: صحيفة (المنار) التي ظهرت سنة 1951 لصاحبها "محمود بوزوزو"، والتي توقفت سنة 1954 بسبب أزمة مالية. أما الصحيفة الثنية فهي (المغرب العربي) لصاحبها "محمد السعيد الزهري" الذي أصدرها سنة 1948، وكانت جريدة أسبوعية ومساندة لحركة الانتصار، ثم اختفت فترة، وعادت إلى الظهور في 17 مارس 1956، ودامت حوالي شهرين، ثم توقفت بعد اغتيال صاحبها في ظروف غامضة.

وأصدر اللجنة الثورية للوحدة التي تأسست في 23 مارس 1954 نشرية باسم (الوطنيLe patriote)، وقيل أن "محمد بوضياف" كان يشرف عليها، وذُكر أن "محمد العيشاوي" مدير مكتب حركة الانتصار في العاصمة هو الذي كان يطبعها.

أما جرائد الثورة الجزائرية فكانت أول جريدة هي جريدة (المقاومة الجزائرية) التي ظهرت في أواخر 1955 في باريس باللغة الفرنسية وطبعت أولا في فرنسا وفي أوائل 1956 طبعت في المغرب. وفي منصف هذه السنة الأخيرة ظهرت طبعة اللغة العربية في تونس، وكانت تدخل للجزائر بطريقة سرية. وبعد انعقاد مؤتمر الصومام تغيير اسم جريدة (المقاومة) إلى اسم (المجاهد) وجعل المؤتمر جبهة التحرير الوطني هي المشرف عليها تحت قيادة لجنة التنسيق والتنفيذ. وصدرت في البداية في العاصمة، ثم بعد خروج لجنة التنسيق إلى الخارج سنة 1957 بعد اضراب فبراير أصبحت تطبع في تطوان بالمغرب. ثم في نوفمبر من نفس السنة قررت لجنة التنسيق والتنفيذ نقل جريدة (المجاهد) من تطوان إلى تونس واستمر حتى الاستقلال 1962. وخلال هذه المرحلة صدرت المجاهد بطبعتين تونسية ومغربية (تطوان ثم الرباط)، وكانت تصدر نصف شهرية، لكنها غير منتظمة، وكانت تصدر في طبعتين فرنسية وعربية، وإذا كان الخط العام واحدا في الطبعتين فإن المحتوى لم يكن دائما طبق الأصل لاختلاف الجمهور في الحالتين، وكان المسؤول على الطبعتين هو "رضا مالك"، بينما كان "محمد الميلي" و"منور مروش" مسؤولين على النسخة العربية، و"فرانز فانون" مسؤولا على النسخة الفرنسية.

وفي هذه الفترة (1940 ـ 1962) أصدرت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جريدة (البصائر) في سلسلتها الثانية سنة 1947 واستمر (البصائر) في الصدور إلى غاية شهر أفريل 1956، وفي سنة 1952 جريدة باللغة الفرنسية أسمتها (الشاب المسلم) فكانت صورة لما تنشره (البصائر) في المواضيع والاتجاه، وكتب فيها أمثال: "مالك بن نبي" و"عمار أوزقان" و"الشريف ساحلي"، وكانت تصدر نصف شهرية. كما أصدر بعض الجمعية سنة 1949 جريدة شعبية باسم (الشعلة) وكان يشرف عليها الأديب "أحمد رضا حوحو" والشيخ " الصادق حماني" وكانت تكتب بأسلوب ساخر وأحيانا بالدارجة وبنبرة حادة.