المحاضرة الأولى: إشكالية نقل وزرع السوسيولوجيا في الوطن  العربي

1 ظروف انتقاله ونشأته في العالم العربي: -

إن ظروف نشأة علم الاجتماع في الغرب بالطبع هي ليست نفسها ظروف ولادته في البلاد العربية، فالعالم العربي مشرقه ومغربه لم يعرف الثورة الصناعية أو التكنولوجية ولا تراكمية علمية أفضت إلى ثورة تكنولوجية مثلما حدث في الغرب، ولن أكن مبالغا في القول إذا قلت حتى اليوم وبعد مرور قرنين من اتصاله بالغرب وتعرفه على-منجزاته الحديثة لم يستطع أن يستوعب منجزاته التقنية، ويواكب تقدمه الحضاري ، - واذا كان السؤال المحير الذي طرحه شكيب أرسلان في نهاية القرن التاسع عشر" لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، فإنه لم يلق الإجابة عليه حتى اليوم. والحقيقة

أن العالم العربي مشرقه ومغربه قد تعرف على الحضارة الغربية ومنجزاتها مبكرا مع الاستعمار منذ منتصف القرن التاسع عشر، ذلك الحدث التاريخي الذي يمكن أن ينظر إليه من جهة أخرى بأنه احتكاك حضاري تم بين الغرب الصناعي والشرق الزراعي، وبذلك أطلع على الكثير من علومه كما أسلفنا الذكر ومنها علم الاجتماع.وطبيعيا أن يتأثر العالم العربي بثقافة الاستعمار سواء الانجليزي منه أو الفرنسي أو غيره، بعد أن كان خاضعا له وتحت وصايته على ما يربو قرن من الزمان أو أكثر تقريبا حسب كل بلد، فالثقافة العربية الحديثة في الإطار المكاني أو الإقليمي ارتبطت بثقافة المستعمر في مجالات عديدة، وهذا بدوره أثر في البيئة الاجتماعية للمجتمعات العربية. وفي هذا الإطار أيضا يمكن النظر إلى الأقاليم العربية كمنطقة ثقافية تضم بداخلها قسمين كبيرين متمايزين وكل قسم ارتبط بثقافة غربية، فالفكر الاجتماعي

والمع رفة العلمية لدى دول المشرق العربي ترتبط إلى حد كبير بثقافة المستعمر الإنجليزي، في حين ارتبط مجتمع شمال أفريقيا بشكل كبير بثقافة المستعمر الفرنسي، وهذا الارتباط ساهم في التلاقح والتبادل الحضاري بين الثقافة المحلية

وثقافة المستعمر واستمر الحال عليه إلى مرحلة الاستقلال، بحضور ثقافة المستعمر إلى جانب الثقافة

المحلية، والتي تبنتها الدولة الجديدة في إطار تحديث المجتمع، وبالتالي ظهر مركب ثقافي يتصف بازدواجية التفكير واللغة والثقافة، أو مايسمى بالثنائية على كافة Iالمستويات والأصعدة وحتى النخب. كما تجلى ذلك في الخطط التنموية والمشاريع

الكبرى المتعلقة بالتنمية لتلك المجتمعات، فالفكر السوسيولوجي في البلاد العربية ليس أحادي المنبع. ومنه "يبدو أن هذا النمط الثقافي وما ترتب عنه من ممارسات سوسيولوجية يمثل استجابة لافتقار الثقافة المحلية إلى نظريات واضحة المعالم ومناهج علمية تمكن من حل المشكلات المتجذرة والتي تعاني منها المجتمعات العربية وتحقق طموحاتها، كل ذلك أدى إلى استي ا رد حلول جاهزة بتبني نظريات ومناهج من ثقافات أخرى طبقت في الغالب وبوسائل وتقنيات ثقافة المستعمر" 6 وفي هذا السياق التاريخي وعلى المستوى الأيديولوجي، بقيت السوسيولوجية في البلدان العربية على قلتها رهينة - -لتوجهات التنموية والأيديولوجية للدولة الوطنية والمرتبطة أما بالتوجه الاشتراكي أو الراسمالي، توجهات نتج عنها نوعين اثنين من علم الاجتماع: علم الاجتماع البرجوازي وعلم الاجتماع الاشتراكي ولكل نوع منهما منطلقاته الفكرية والإيديولوجية،فالأول كان هدفه الحفاظ على النظام القائم مع محاولة خلق ميكانيزمات التوازن في هذا النظام، أما الاتجاه الثاني والذي يعتبر مضاد للأول وهو علم الاجتماع الاشتراكي الغرض منه حل المشكلة الاجتماعية بطريقةراديكالية، بمعنى تغييرالمجتمع الرأ سمالي وتحويله إلى مجتمع اشتراكي لحل مشكلة التناقض الرئيسي بين رأس المال والعمل) 7 (. وقد ساد علم الاجتماع الاشتراكي في معظم البلدان العربية كون ذلك صاحب عملية التحرر من الاستعمار، حيث أتبعت العديد منها التوجه الاشتراكي وذلك استكمالا للتحرر الذي ترى في اختياره نهجاَ مخالفاَ للاستعمار، لأن معظم الدول الاستعمارية كانت ذات توجه أ رسمالي، وذلك ما سمي بالمرحلة المضادة كنقيض لمرحلة الاستعمار. ومن بين علماء الاجتماع العرب الذين تبنوا منطلقاته الفكرية، هشام ش ا ربي في دراسته المجتمع العربي، حيث تبنى النظرية الجدلية الماركسية في تحليل البحوث الاجتماعية، ومنهم من حاول تفسير الفكر العربي تفسيرا ماديا تاريخيا)محمود أمين(، وسمير نعيم، ومنهم من حاول دراسة التراث دراسة مادية تاريخية مثل حسن مروة، ومنهم من طبق الماركسية كمنطق ضمني في أبحاث اجتماعية جديدة وجدية حول ماضينا وحاضرنا، مثل عبد الله العروي  8 .)

3 علم الاجتماع في الوطن العربي من الوثبة إلى النكبة -

2 3 البدايات وتكوّن الرعيل الأول: قلنا سابقا إن العالم العربي تعرف على منتجات - الثقافة الغربية ومجالاتها العلمية مبكرارا ومنها علم الاجتماع، كان ذلك في الجامعات الغربية، ففي عام 1913 ناقش منصور فهمي أطروحة الدكتوراه حول وضعية المراة في الإسلام تحت اشراف الدروكايمي لفي بريل) 1857-1939 Lucien Lévy-Bruhl - ( وفي عام 1918 ناقش طه حسين أطروحة الدكتوراه الجامعة حول " الفلسفة الاجتماعية لابن خلدون" وكان قد أعدها تحت أش ا رف اميل دوركايم) E. Durkheim (نفسه) 9 (، مؤسس المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع وناقشها سنة 1918 بعد وفاة هذا الأخير سنة 1917 ، تحت إش ا رف تلميذه silicetain B سليستان بوقلي) 1870-1940(. يقول الباحث جمال الدين غريد، لهذين الحدثين دلالتين اثنتين:

الأولى أن العالم العربي تعرف على السوسيولوجيا في فترة مبكرة، ففي الوقت الذي كان فيه منصور فهمي وطه حسين يعدان أطروحاتهما كان الآباء المؤسسون لعلم الاجتماع جميعا على قيد الحياة، بل كانوا في أوج عطائهم العلمي. ففي هذه الفترة كانوا قد نشروا أو بصدد نشر أمهات أعمالهم المميزة، فدوركايم كان قد نشرمؤلفه" الأشكال الأولية للحياة الدينية" سنة 1912 ، وفالفريدباريتو f.Barito عمله المركزي "المدخل لعلم الاجتماع" سنة 1916 ، أما فيبر ) M. Weber ( الذي شرع في تحرير كتابه الأساسي "الاقتصاد والمجتمع" سنة 1909 ، ثم توفي 1920 ، قبل صدوره الذي . لم يتم إلا سنة 1922.

 الثانية إن التعرف بالسوسيولوجيا كان في الوقت ذاته تعرفا بابن خلدون، الذي يرجع له الفضل في اكتشافه إلى أوربا ورده إلى أهله وثقافته) 10 .)  نستنتج إذا من هذين الحدثين نتائج كثيرة، تعرف العرب إذا مبك ا ر على السوسيولوجية

الدوركايمية، وتعرفوا عليها بصفة مباشرة، فتكون جلهم في الجامعة الفرنسية على أيدي المؤسسين الأوائل لعلم الاجتماع من الدوركايميين، أعدوا الأطروحات تحت إش رافهم وترجموا بعض أعمالهم، وأسسوا فرعا لتدريس السوسيولوجيا في الجامعة

المصرية وذلك منذ سنة 1925 ، فكانت الهيمنة الدوركايمية تكاد تكون مطلقة على الرعيل الأول من السوسولوجيين العرب وخصوصا المصريين منهم، وهكذا فقد أشرف لفي بريل ) Lévy-Bruhl (على أطروحة منصور فهمي أول متحصل على دكتو ا ره دولة في علم الاجتماع، وأشرف فوكوني voconi على عمل عبد الواحد وافي أول أستاذ كرسي في علم الاجتماع وعلى دبلوم علي عبد الواحد عبد العزيز عزت حول موضوع:" علم الاجتماع عند ابن خلدون ودوركايم"سنة 1937 ، وأشرف علي عبد الواحد وافي، والذي يعتبر نفسه دوركايميا على أول دكتو ا ره مصرية في علم الاجتماع أعدها مصطفى الخشاب سنة 1949 ، وفي سنة 1950 نقل محمود قاسم إلى العربية كتاب "قواعد المنهج في علم الاجتماع لدوركايم") 11 .) ولم يقتصر التكوين المصري على المدرسة الفرنسية الدوركايمية بل تعداه إلى المدرسة البريطانية والأمريكية، وخصوصا في الأنثروبولوجيا وفروعها الحديثة، مثلما هو الحال مع أب الأنثروبولوجيا العربية أحمد مصطفى أبوزيد الذي درس عند إيفانز بريتشارد) Evans-Pritchard (في الجامعة البريطانية. ولهذا الحدث لا يقل شأن عن الحدثين السابقي الذكر من ناحية الأهمية، فقد تعرف العرب على الأنثروبولوجيا في م ا رحلها الأولى من التشكل، أي في الوقت الذي بدأت تشق فيها طريقها العلمي، إذ كان العلماء العرب يتكوّنون على أيدي مؤسسي ذلك العلم الجديد، يتقدمهم العالم الأنثروبولوجي المشهور، الدكتور أحمد مصطفى أبو زيد )ولد 1 3مايو1921هو أحد رواد علماء "الأنثروبولوجيا" العرب، والذي لُقب ب"شيخ الأنثروبولوجيين العرب"،كان قد تلقى تعليمه بجامعتي الإسكندرية وأوكسفورد، أحمد مصطفى أبوزيد- درس عند إيفانز بريتشارد Evans-Pritchard ( حصل على ليسانس في الآداب - )فلسفة وعلم الاجتماع( من جامعة الإسكندرية1944 ، ثم على درجة الدكتو ا ره في الانثروبولوجيا من جامعة أكسفورد 1956 ، وهو الفائز بجائزة النيل للعلوم الاجتماعية لعام 2011 ، وخبير سابق في مكتب العمل الدولي بالأمم المتحدة، وأستاذ ا زئر في الجامعات العربية والدولية، ومستشار سابق لمجلة "عالم الفكر" الكويتية، ومقرر لجنة الد ا رسات الاجتماعية في المجلس الأعلى للثقافة في مصر. عمل أستاذا للأنثروبولوجيا وخبي ا ر بمكتب العمل الدولي بجنيف، أثرى المكتبة العربية بعش ا رت

المقالات الموزعة في الدوريات، من مؤلفاته كتاب"المفهومات" وكتاب "الأنساق" و"المعرفة وصناعة المستقبل". عمل أستاذ أنثروبولوجيا متفرغ بكلية الآداب جامعة . الإسكندرية إلى وفاته سنة 2013.

وفي العراق نجد علي الوردي) 12 ( والذي يعتبر من أوائل علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في العالم العربي، فبعد أن أكمل د ا رسته الثانوية وتحصل على درجة البكالوريوس سنة 1936 ، أرسلته الحكومة العرا قية للد ا رسة في الجامعة الأمريكية في بيروت وحصل على درجة الماجيستير عام 1943 ، وفي عام 1948 أرسلته الحكومة العراقية ثانيةلاستكمال د ا رسته العليا في تكساس الأمريكية وحصل على شهادة الدكتور اره في علم الاجتماع سنة 1950، وعاد إلى العر اق سنة 1952 وعُ ين في قسم علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة بغدادا، وقد كتب الوردي خلال عمله بالجامعة وفي مرحلة التقاعد ثمانية عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات. وقد اتسمت كتبه ومقالاته التي صدرت بعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958 في الع ا رق، وفي مقدمتها: ،") "د ا رسة في طبيعة المجتمع الع ا رقي) 1956 ("، "ومنطق أبن خلدون)القاهرة 1962  و"لمحات اجتماعية من تاريخ الع ا رق الحديث"، وقد صدر الكتاب في ثمانية أج ا زء ما  () بين سنتي) 1969-197913 .) ولم يقتصر انتقال علم الاجتماع الى العرب عن طريق الد ا رسة والتكوين المباشر على أيدي المؤسسين لهذا العلم الجديد، بل استقدمت بعض الجامعات العربية لثلة  من أولئك العلماء المؤسسين لفتح فروع لعلم الاجتماع بتلك الجامعات والتدريس فيها أمثال ا رد كليف بروان R.Braoin ، وايفانزبريتشارد Evans-Pritchard